تثير العلمانية فزعاً غير مبرَّر في سياق الحوار العربي الفكري والثقافي، وليست حصراً على الديني والسياسي على ما تحيل إليه كمصطلح بالغ الدلالة في مثار النزاع على نظام الحكم السياسي أو توجهات المجتمع. ومع أنَّ الخطاب الثقافي العربي قد استوعب الكثير من المفاهيم "الغربية" وأعاد إنتاجها في مكونات الثقافة العربية فأصبحت جزءاً منها، وإن شابتها توفيقية ترقى إلى الميكافيلية في التعامل مع المفهوم والإفادة منه وحالة الإنكار الفصَّامية التي سمَّت الشخصية الثقافية العربية.
ولأنَّ العلمانية دخلت الفضاء العربي عبر تعريف مُلتبِس ترجمة ومفهوماً وتداولاً، واكتست بالتالي بالسجال العربي الموروث مثلها مثل غيرها من المفاهيم والمصطلحات الأخرى كالديمقراطية والليبرالية غيرها، وجمعيها غربية المنشأ في أصلها اللغوي والمفاهيمي، ولكن ما تبقى العلمانية بكل ما أثارته من تنافر بين رفض مطلق بجذرها الكنسي الديني في سياقها الصراع الغربي في القرون الوسطى، وانبهار مفرط لاتصالها بالحداثة والتطور في بلدانها. وانتقالها بعد ذلك من وسيطها اللاهوتي إلى تجليها السياسي والقانوني ما جعل منها ديباجة دستورية في عدة من دساتير شعوب الديمقراطية الغربية، مثلها مثل غيرها من المفاهيم التي تطورت عن تجربة إنسانية ممتدة، فأصبح مرادفها معنى وتطبيقاً نظم سياسية كالديمقراطية، ومبادئ اقتصادية كالرأسمالية ومسلك حياة كالليبرالية، وتتفاوت درجة هذا بين بلد وآخر وثقافة وأخرى، لكنها تبقى في مدار تعريفها الأهم، أي الحداثة، وما طبقته التجربة السياسية من سيادة القانون وحقوق الإنسان وما اعتمدته التجربة الإنسانية من تجارب أسست لعالم اليوم.
البحث عن تراث عقلاني في الثقافة العربية الإسلامية لم يكن جديداً منذ أن أفضت محاولات النهضة إلى حفرٍ عميق في طبقات تراثية ذات تأثير عالمي واستدعاء لأصوات رغب المفكرون من خلالها في إبراز الجانب العقلاني في حدود ما يسمح للثقافات مع تلاقح يفضي إلى فهم مشترك على أساس إنساني رحيب، دعوة إلى ما عرف في المباحث الفكرية بأنسنة Humanization التراث. ولأن الجماعات التي تقف بوجه العلمانية بصوتها الجهير في مواجهة خطاب الدعوة إلى حداثة العلمانية - على تمتعها بامتيازاتها - العربية حالت دون مناقشتها أو تطبيقها.
إن علمانية الثقافة العربية وصفاُ لا ينحو إلى ابراز الأصوات التي خالفت معهود التقاليد أو تجرأت بمساءلاتها الفلسفية والفكرية النقدية ما ترسخ من معتقدات دينية تلاقحت مع فلسفات وديانات أخرى وحسب، بل ربما المدى الإنساني الذي أمكن لهذه الثقافة من أن تستوعب وتنجز مشروعها الحضاري الكوني لا الميتافيزيقي. فشخصيات كانت مثار جدل في ماضي الثقافة العربية وتراثها مثل ابن سينا وأبو بكر الرازي أو ابن الرواندي مضافاً إليها مدارس واتجاهات عقلانية من صلب التراث الديني والصوفي مثل الحلاج والسهروردي وابن عربي وابن رشد كان لها إسهامها في منجزات الحضارة الإنسانية مادياً وفكرياً. بالإضافة إلى المدارس الكلامية والفلسفية كالمعتزلة التي حاولت إعمال العقل في استيعاب جدلية المقدس والإنساني وبالتالي تفسيره في حدود المنطق والتفكير العقلاني. ولم تدخر العقلية التقليدية جهداً في تصنيفهم ضمن دائرة الزندقة والخروج عن الملة إلى الالحاد من أولئك القدماء أو في العصر الحديث. ولكن سيادة الاتجاه المحافظ داخل الأوعية الثقافية العربية المدعوم بسيف السلطان لم يزحزح الصوت الآخر أو ينفي وجوده على أفق السؤال الثقافي، وإن أنتج هذا الصراع تكويناً فكرياً يتراوح ما بين التراث والحداثة أو التقليد والإتباع وغيرها من ثنائيات تضج بها الفضاءات الثقافية العربية دون حسم.
إقرأ أيضاً: الهوية عند كوامي أنتوني أبياه بين المصير والمشروع
ولم يكن جدل العلمانية يدور حول تعريفها الرائج في الفصل بين الدِّين والدولة أو حاكمية الله والبشر بمفهوم الجماعات الإسلامية أو صراعاً حول مباحث تتعدى "نظم الحكم في الإسلام" كما صاغها الشيخ علي عبد الرازق؛ أو وسماً للثقافة العربية في ظاهرتها الصوتية كما حددها المفكر عبد الله القصيمي. فالجدل تستسيغه المناقشات العربية التي تدور حصراً حول التعريف المدخلي "اللغوي" دون المفهوم مما عمَّق من الفجوة بين قيِّم الدِّين ومفاهيم العلمانية في المقاربة المعرفية التي تحاول تأصيل جدل قائم عن السؤال ابتداءً ما الذي جعل من الدِّين بمهيمنته المطلقة خطاباً مضاداً للمنجز الإنساني "مفهوم العلمانية"؟ بعيداً عن السياق السياسي الذي أخرج كل من الدين والعلمانية من المجال الفكري المعرفي المحضَّ إلى قيّم لا تكاد تختبر سطوتها إلا في أضيق دوائر الصرَّاع السياسي، وبهذا ضُيِّق حيّز التأثير الديني وجردّت العلمانية من محتواها الانساني؛ إذٍ من الخطل في التفكير نقل الصرَّاع المحتدم تاريخياً بين سلطات تحتكر الدِّين (مؤسسات دينية، شخصيات... إلخ) وتطور في مفاهيم الفكر الاجتماعي والسياسي العلماني. فالمسافة الفاصلة بين آفاق ميتافيزيقية لها أثرها الطاغي على التفاعل الوجودي الانساني ذات ممارسات طقوسية، وومفهوم ذي بعد بشري في طابعه التطبيقي تتفاوت فيها درجات الصدام بحسب المجال التاريخي في مسار الأمم.
إقرأ أيضاً: ماريا كالاس وأرسطو أوناسيس... ومِن الحُب ما قَتَل!
وبما أن التعارض بين الدين والعلمانية أكثر ما تجلى في طرح أولئك المدافعين عن سيادة العقل، علمانياً، في الحياة المدنية وبين هيمنة للدين بنزعته الغيبية، إلا أن هذا الطرح لا يقدم إجابات مقنعة يستقيم معها منطق معرفي يؤسس لحوار مفتوح بين مسارين في التفكير والتطبيق. فإذا كان الواقع يقتضي فصلاً تاماً بين الدين والعلمانية خصوصاً في المنطقة العربية، فإنَّ ذلك يتقضى أيضاً استيعاب طبيعة القضايا التي يعالجها الدين في المحيط الإنساني وتلك التي تتصل بالمؤسسات العلمانية التي تمنح هذا المحيط تعدد وجهات النظر.
وقد عرفت الثقافة العربية في إنتاجها الأدبي السردي (الروائي) كجنس لم تتضمنه أو يخرج عن ذاكرة ولغة الكتابة العربية واستمرت بتقاليدها الغربية (العلمانية) في المدونة العربية، وكادت أن تمثل كما يطرح بعض النقاد أن تزيح الشعر وتصبح بالتالي ديوان العرب عوضاً عن الشعر! وإذا كان الأدب يطرح ثقافياً واجتماعياً مغايراً تمثل الرواية منذ أن تبنتها دائرة المقروئية العربية وما نتج عنها من فنون مجاورة (السينما، المسرح... إلخ) طرحت مستوى عقلانياً مستجيبة لتحديات عصرية آخذة الخطاب الروائي العربي إلى تفاعل أدبي طور من قيمة الأدب في نمطه وموضوعاته الجديدة.
إقرأ أيضاً: الرواية والأيدولوجيا
وكما مثل الماضي (التراثي) حملاً ثقيلاً ليس على طبيعته التراكمية في أرشيف الثقافة العربية، ولكن في حدود ما أعاق العقل العربي في التحرر من قيودٍ تاريخية تلزم المثقف العربي لتداخلها المعقد ما بين الديني والاجتماعي الموروث، وبما أن امتلاك الثقافة العربية لتراث ضخم على ما يميزها من بين الثقافات المنتجة ماضوياً والمسهم بقدر في الحضارة الإنسانية بمعايير العلوم ومنتجات الحضارة في الطب والفلسفة والفقه، إلا أن هذا التراث قد توقف لقرون خلت وتصلبت شرايينه وتخطت كثير من النظم العلمية والثقافية القائمة، وتحول إلى طوطم تدور حوله أشواق الثقافة العربية بانفعال نوستالجي متخيل لواقع إن لم يكن يصعب استدعائه فيستحيل تطبيقه. وإن من الحقائق التي لم تعد في معرض نقاش مظاهر العلمانية وتبني أشكالها في التعليم والإدارة والثقافة والعلاقات الاجتماعية في الواقع العربي دليلاً آخراً على تسيد مخرجاتها على ما عداها من تقاليد لم تعد الحاجة إليها ضرورية. وما أنتجته الثقافة العربية من مشروعات حاولت التحديث العلماني للنظم السياسية العسكرية العربية التي فشلت فيها أو في الدول التي حققتها دون أن ترفع شعارات ايدولوجية سياسية تمثلت في أنماط الحياة المعاصرة محتواها العالمي يشير إلى وإذا كانت الثقافة بكل مداخلها التعريفية يكون التلاقح بين الثقافات أبرز ما يحدد مفهومها في عالم اليوم.
التعليقات