الطّوْفُ في معجم البساتين جدارٌ من طينٍ يحيطُ بها. وفي دارجِ كلامِ أهلِها يكونُ مُفردها "طوفة". فالسائرُ في دروبِ البساتينِ، في المناطقِ التي اشتهرتْ بها في العراق، إنَّما يسيرُ بين خطين من الطّوْفِ تطلُّ من خلفِها وتظللُها والطريقَ أشجارُ الفاكهة ببرتقالٍ يُضيءُ أو عرائشُ عنبٍ أو تينٍ وزيتون، يرتفعُ فوقَها نخيلٌ تدلّتْ عذوقُهُ في الموسمِ بكرمٍ متعالٍ عصيٍّ الا على الطيور، أو ما نثرَتْ أسفلَهُ الريحُ للدّوابِ والبشر.

غارتْ في الطوفِ مواضعُ مبثوثةٌ على غيرِ اتفاقٍ هي مداخلُ أبوابٍ، نَجِدها صُنعتْ من جذوعِ النخلِ المشطورِ تسترُ ما فيها، أو من أغصانِ الشجرِ المتقاطعِ تشي بما خلفَها. وللأبوابِ المتينةِ من منشورِ جذوعِ النخلِ المرصوفِ مغاليقُ ومفاتيحُ، كلاهما من خشبٍ. المفاتيح ذاتُ أسنانٍ ثلاثة تَرفعُ، حينَ الفتحِ، أسناناً ثلاثةً أُخرى تقابلُها، نزلت في ثقوبِ الوتدِ الغالقِ فتسمح بسحبِه وفتحِ الباب.

وردَ في قاموسِ المعاني "الطوفُ هو الجدارُ ونحوُه يقام حولَ قطعةٍ من الأرض" وربما تكون الكلمةُ مشتقةً من الفعل "طافَ" فالجدارُ يطوفُ حول الأرض المخصصة، بستاناً كانتْ أو نحوَ ذلك. والطوفُ الذي يُسيَّرُ في الماءِ تحمِلُه قِرَبٌ مملوءةٌ هواءً ويُستعملُ للنقل، على نحوِ ما استعملَهُ، قبلَ الزوالِ، ناقلو البطيخِ من سامراء إلى بغداد واسموه "كلكاً"، هو غير ما نحنُ بصدده. هذا الأخيرُ مشتقٌ منَ الفعلِ طَفا أي عامَ على سطح الماء وليس طافَ أي سار حول الشيء ملتفاً. ويطوفُ الناس حول الشيء كما همْ عليه منذُ القدم حول الأماكن المقدسة.

يُبنى طوفُ البيوتِ والبساتينِ من طينٍ مخلوطٍ بالقش أو التِّبْنِ، وهو ما تهشّمَ من سيقانِ الحنطةِ والشعيرِ، يُترك لبضعةِ أيامٍ حتى يتخمّر، ما جعل المحليين يُطلقون عليه اسم "تخميرة". بعضُ الكلماتِ العريقةِ في اللغة يثيرُ وجودُها أسئلةً مُحيّرة. كيف عرَفَ الناسُ منذ قديم الأزمان بسيرورة التخمر رغمَ أن الخمائرَ كنوعٍ من البكتريا لم تُكتشفْ الا مُتأخراً؟

يساعدُ التِّبْنُ في وجهين: إنَّه رابطٌ بين أجزاءِ الطينِ يمنعُ حدوثَ تشققاتٍ كبيرةٍ فيه بعدَ أن يُبنى به ويجفَّ ولكنّه أيضاً وقبلَ البناءِ يساعدُ على تحللِ جزيئاتِ الترابِ المخلوطِ بالماء عن طريقِ الفجواتِ التي يتركُها فيه فتمتلئ هواءً وتساعدُ على التحلل. ووَرَدَ أن بكتيريا الخمائرِ تعيشُ على الخشب وعندَ خلطِ الطينِ بالقش تنتشرُ فيهِ فتساعدُ على تحللِ مكوّناتِ الطينِ وتجانسِها. وبكتيريا الخمائرُ كائناتٌ حية تتواجدُ في وسطٍ فيه أوكسجين.

ويُبنى الطّوْفُ من خطوطٍ فوقَ بعضِها يبلغُ ارتفاعُ الواحدِ منها نحواً من 80 سنتمتراً ويُبنى الخطّ التالي منها والذي يُسمّى "ريز" بعد تماسكِ أسفلِه، فترى الطوفَ مخططاً بخطوط أفقيةٍ متعرجة. بمرور الزمن، حينَ يحتُّ المطرُ والريحُ في جسد الطوفِ، تنشأ خطوطٌ عمودية كسيلِ المطرِ المتعرجِ تُشبهُ التجاعيدَ في الوجهِ الشائخ. وفي أعلاها يُثبّتُ العوسجُ الذي يجعلُ تسلقَها واجتيازها صعباً. تكونُ بشرةُ الطوفِ بلونٍ ورديٍّ ـ بُنيٍّ يُشبهُ لونَ الجلدِ الحيّ، والظلالُ التي تُسقطها أشعةُ الشمسِ المائلة جعلتِ الأخاديدَ والتجاعيدَ وقد اصطبغتْ بلونٍ بنفسجيٍّ فتجاورَ دفءُ الألوان وتعانقتْ، ما أوحى بالحياة وإن سكنتْ. فالنبات حياةٌ لكنها ساكنة. والبنفسجيُّ خليط من لون دافئ وبارد، يغلب أحدهما فيكون هذا اللون الغامض مُزرّقَ بارداً أو مُحْمّرَ دافئاً.


لوحة منير العبيدي

كأنما القشُّ يبثُّ روحاً في الطينِ أو كأنما باتحادِ عناصرِ التراب والماء والقش تنهضُ روحٌ إلى الوجود. وحينَ نجدهُ مختمراً في طرقاتِ البلدةِ أو في دروبِ البساتين، نَرى كيفَ تصّاعدُ منه فقاعاتٌ، وكيفَ أطارَ رائحةً خاصة واصطبغتْ أوشالٌ رشحتْ منه وقد تجمعتْ في طبعات أقدامٍ غائرةٍ لمنْ خلطوهُ بالدوْسِ، بلونٍ أصفر. نجدُ في خميرةِ الطينِ أشكالاً تتحرك، وجوهاً تعبسُ وتبسمُ وهي التي حين جفّتْ في طوفِ البساتينِ بقيتْ تراقبُ ليلَ نهار مداخل الدروبِ طاردةً الغيلان والأرواح الشريرة، فحَمَتِ البساتينَ، غلّتَها وأهلَها من غائلةِ الاعتداءِ. وحينَ صار بعدها أنْ غابتْ، أزيلتْ أو استُبدلتْ، فاضتْ روحُ البساتين إلى بارئها وحلَّ فيها الخرابُ.

ونحنُ نأتلفُ والطينَ على غيرِ ما عليه بدائلُه، إذ نحنُ " من تراب وإليه نعود" وسيادةُ العمائرِ من غيرِ الترابِ اغترابٌ ونذيرٌ بأنَّ الأرضَ قدْ ضاقتْ بحملِها ولمْ يعدْ طينُها يكفي. وقد تكبّر الشيطان علينا أنْ أنَّهُ من نارٍ فيما نحنُ من طين.

وعن خمائر الطين كتب ابنُ طُفيل. وهو اذ أوردَ روايةً عن ولادةِ حيِّ بنِ يقظان، تحدّثَ أنْ في جزيرةٍ بأرض الهند يتولَّد الإنسان من غير أمٍ ولا أبٍ وبها شجر يُثمرُ نساءً. ثم به يعرجُ على خلقِ "حيِّ بنِ يقظانَ" فيشيرُ إلى أنَّ أموراً: "تشهد بصحة ما ذُكِر من تجويز توّلد الانسان ... من غير أم ولا أب"*.

"وأما الذين زعموا أنه تولَّد من الأرض، فإنهم قالوا إن بطنًا من أرض تلك الجزيرة تخمرت فيه طينه على مر السنين والأعوام حتى امتزج فيها الحار بالبارد والرطب باليابس امتزاج تكافؤ وتعادل في القوى"*.

"وكانت هذه الطينة المتخمرة كبيرة جداً، وكان بعضها يفضل بعضاً في اعتدال المزاج والتهيؤ، وكان الوسط منها أعدلَ ما فيها وأتمَّه مشابهًة بمزاج الإنسان، فتمخضت تلك الطينة وحدث فيها شبه نفاخات الغليان لشدة لزوجتها، وحدث في الوسط منها لزوجة ونفاخة صغيرة جٍّداً منقسمة بقسمين بينهما حجاب رقيق، ممتلئة بجسم لطيف هوائي في غاية من الاعتدال اللائق به، فتعلق به عند ذلك الروح الذي هو من أمر الله تعالى وتشبث به تشبثاً يعسر انفصاله عنه عند الحس وعند العقل، إذ قد تبين أنَّ هذا الروح دائم الفيضان من عند الله ـ عز وجل ـ وأنه بمنزلة نور الشمس الذي هو دائم الفيضان على العالم"*.

"واستعانوا في وصف كمال ذلك بتلك الطينة الكبيرة المتخمرة وأنها كانتْ قد تهيأت لأن يتخلّق منها كلُما يحتاج إليه في خلق الإنسان من الأغشية المجللة لجملة بدنِه وغيرها، فلما كُمل انشقت عنه تلك الأغشية بشبه المخاض وتصدع باقي الطينة إذ كان قد لحقه الجفاف"*.

سرتُ في دروب البساتينِ منذ بواكير التذكرِ وشممتُ عطرَ الشجرِ وسمعتُ حوارَ الأغصان وتغريدَ الطيور. ظننتها خالدة وقلت لنفسي: "ما أظن أن تبيد هذه أبداً"، لأنها إذا ما بادت فسوف يختل ميزان الكون. حتى ذات يوم فإذا هي بادتْ وغادرتْها الطيورُ وباتَ النخيل والشجرُ أعجازاً خاوية. حل الخراب في العالم وعمت فيه الأوبئة والفيضانات والحروب.

إنَّها لعنة الطين.


الكتابة المحصورة بين قويسات "" ومؤشرة بنجمة (*) مأخوذةٌ منْ "حيِّ بنِ يقظان" لابنِ طُفيل