إيلاف من تونس: ليست العتبات موضوعاً معزولاً عن النص، وليست كذلك مجرّد نص مواز، فبينهما صلة وشيجة، إذ تمارس العتبات تأثيراً مميّزاً على القارئ وتوجّه أفق انتظاراته وتمنحه مفاتيح للقراءة ينفذ منها إلى عوالم التّفكير والتأويل، وهي بذاك لم تعد مكوّنا ثانويّا في الكتابة السّرديّة الحديثة، بل تحوّلت إلى مدخل أساسيّ من مداخل قراءة النّصّ. في ما يلي دراسة نقدية في المجموعة القصصية "سكين النحت" للكاتبة أفراح الهندال
في البدء: في عتبات النص
لم تعد العتبات مكوّنا ثانويّا في الكتابة السّرديّة الحديثة، بل تحوّلت إلى مدخل أساسيّ من مداخل قراءة النّصّ يبني العلامة ويرسم استراتيجيّة التّلقّي والتّذوّق والتّأمّل. فالعتبات تمارس تأثيرا مميّزا على القارئ وتوجّه أفق انتظاراته وتمنحه مفاتيح للقراءة ينفذ منها إلى عوالم التّفكير والتأويل. والعتبات ليست موضوعا معزولا عن النص، وليست كذلك مجرّد نص مواز، فبينهما صلة وشيجة؛ إذ يستمدّ النّصّ بعض خصائصه الجماليّة والدّلاليّة من العتبات وتكتسب العتبات قيمتها من انسجامها مع النّصّ في أبعاده حتّى لا تكون مجرّد حشو أو استعراض لأقوال مجتثّة من سياقاتها. لذلك اعتبر النّقّاد أنّ العتبات هي الدّليل إلى تمثّل فسيفساء النّصّ ودراستها إذ تمكّن من رصد العلاقة بين داخل النص وخارجه، وبين مضمون المتن وسياقاته، وبين منطوق الخطاب القصصيّ والمسكوت عنه، فهي كما يقول لويس بورخيص "من المداخل التي تجعل المتلقّي يمسك بالخيوط الأوّليّة والأساسيّة للعمل المعروض، وهي أيضا البهو الذي منه ندلف إلى دهاليز نتحاور فيها مع المؤلّف الحقيقيّ والمتخيَّل، داخل فضاء تكون إضاءته خافتة".
وقد ميّز جيرار جينات بين نوعين من العتبات باعتبارها نصّا موازيا: فعدّ كل خطاب يوجد في فضاء الكتاب ﴿مصاحبا نصّيّا﴾ (*) (Péritext) مثل العناوين والإهداء والتّمهيد والمقدّمة والهوامش، واعتبر أنّ المكوّنات التي توجد خارج النص مثل الحوارات والشّهادات... ﴿متمما نصيا﴾ (Péritext). فالعتبات النّصّيّة أصبحت حقلا معرفيّا قائما بذاته يمكّن المتلقّي قارئا كان أم ناقدا من فهم خبايا المتن القصصيّ ودلالاته. فتشكّل كما يقول ماري توماسو (J.M. Thomasseau) «مجموعة أصوات أو لونا من القناع الرمزيّ».
التّصدير عتبة من عتبات النص
يعدّ التّصدير (Epigraph) عتبة من عتبات النّصّ المحيط التي تتوجّه إلى «قارئ فعليّ». فقد اعتبر جيرار جينات أنّ التّصدير «حركة صامتة تحتاج إلى كفاءة القارئ وقدرته على استنطاق العلامة والجواز إلى فعل التّأويل»، فبقدر ما ييسّر التّصدير على القارئ فهم النّصّ وسبر أغواره قصد استكشاف أبعاده وتمثّل دلالاته، فإنّه يتطلّب منه كفاءة في استنطاقه واستكناه علاقته بالمتن القصصي.
فالتّصدير من العتبات التي تضيء عتمة النّصّ وتوسّع حدوده وتثريه، وهو إضافة إلى ذلك يعلن عن مشروع كتابة تعتمد الإيحاء أسلوبا وتعوّل على ثقافة القارئ وفطنته وتستثير ذهنه لتكون المتعة متكاملة؛ كما أنّ التصدير يستفزّ فضول القارئ وانتظاراته من المتن القصصّي ويوسع أفقه الثّقافيّ فيضاعف من «حساسيّة المتلقّي وانفعاله.» كما يقول ستاندال.
وقد اعتبر جيرار جينيت أن للتّصدير وظائف عدّة، أهمّها:
1/ وظيفة التّعليق على العنوان وشرحه وتوضيحه متى كان قائما على لغة الإيحاء والتّرميز.
2/ وظيفة التّعليق على النّصّ/ المتن وتوضيح معانيه ومقاصده بما يساعد القارئ على تمثّل دلالات النّصّ الحافّة من خلال إقامة علاقة بين مضمونه ومضمون التّصدير.
3/ إبراز أهمّيّة صاحب التّصدير: إذ ليس المهمّ أحيانا ما يقوله التّصدير، بل المهمّ هويّة صاحبه.
4/ وظيفة الكفالة/ الضّمان غير المباشر: وهي من الوظائف "المنحرفة" للتّصدير كما يقول جينيت، وفيه يأتي الكاتب بالتّصدير المقتبس ليس لتوظيف محتواه وإنّما للاستفادة من شهرة قائله ف"تنزلق شهرتُه إلى عمله."
5/ أثر التصدير: وفيها يكون "التّصدير علامة ثقافيّة وكلمة السّرّ بالنّسبة إلى الهويّة الذّهنيّة" كما يقول جينيت.
فالتّصدير إذن من عتبات النّصّ التي تفتحه على قراءات وتأويلات تخصب طاقة الدّلالة فيه، وهو وليد تيّار نقديّ يرفض فكرة انغلاق النّصّ ويفتحه على فكرة التّناصّ بالتّفاعل مع نصوص أخرى وخطابات خارجيّة تضيف إليه وتأخذ بيد القارئ في قراءته وتمثّل أبعاده حتّى أنه أصبح من اللّوازم النصية في الكتابة القصصيّة الحديثة ومظهرا من مظاهر التّحديث والتّجريب في الكتابة السرديّة المعاصرة.
التّصدير في «سكّين النّحت»
لم يعد التّصدير في الكتابة القصصيّة عند أفراح الهندال مجرّد جسر لفظيّ وسيط، بل أصبح طقساً من طقوس العبور من نصّ إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى ومن فكر إلى آخر. ويبرز ذلك جليّا من خلال كثافة حضوره في «سكّين النحت»، وهي مجموعة قصصيّة تتكونّ من تسع وثلاثين (39) قصة قصيرة، صدرت في طبعتها الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت سنة 2023، وقد تصدّر، باعتباره مقتبساً نصياً، خمسا وعشرين (25) قصّة منها. فما دلالة هذا الحضور؟ وما أبعاده الجمالية والدلالية؟
وبالنظر في المقتبسات النّصّيّة التي صدّرت بها الكاتبة هذه القصص، يمكن أن ننتهي إلى الملاحظات التّالية:
في طبيعة التصدير
- تَوزّعُ هده المقتبسات بين شعر (أحد عشر تصديرا) ونثر (أربعة عشر تصديرا).
- تَوزّعُ المقتبسات النّثريّة بين أقوال فلسفيّة (أربعة) ومسرحيّة (تصدير واحد) ولغويّة/ لسانيّة (تصدير واحد)
وهذا التّنويع في المقتبسات أوجد ضربا من التكامل بين فنون القول أخرجنا من مفهوم "التّجنيس الأدبيّ" إلى مفهوم "الفضاء الأدبيّ"، مثلما كشف عن خصوبة وثراء في المرجعيّات الثّقافيّة والفكريّة التي تصدر عنها الكتابة القصصيّة في مجموعة «سكّين النّحت»، وفتحها على فضاء إنسانيّ أرحب. كما أنّ كثافة حضور المقتبسات الشّعريّة أخرج لغة القصّ من مجال التّعيين والتّصريح إلى أفق التّخييل والتّلميح، فأصبحت لغة القصّ حالمة قائمة على الانزياح تغازل القارئ فتتمنّع عمّن يسارع في طلب ودّها وتجود بوصلها على من يسرح بخياله وفكره في استكناه أبعادها وإدراك أطياف دلالاتها الحافّة. أمّا المقتسبات الفلسفيّة فإنّ حضورها "طعّم" النّصّ الأدبيّ بنزعة فلسفيّة دون أن يفقد النّصّ أدبيّته، بل عاضد المتن القصصيّ في ما يثيره من إشكاليّات تسعى إلى إعادة صياغة أسئلة الوجود والحياة، أو ليست الفلسفةُ عقلَ الإنسان والإبداعُ روحَه؟ فالفلسفة والأدب صِنوان لا ينفصلان ولا ينفصمان في الكتابة القصصيّة عند أفراح الهندال يجمعهما فعل المقاومة والرغبة في تفكيك الواقع وإعادة بنائه من أجل فهم الوجود والموجود؛ ففي غياب السّؤال تتحوّل الفلسفة إلى مجرّد أفكار تتعاطى مع أحداث الواقع وتحوّلاته باعتبارها محض حتميات، وفي غياب التّساؤلات يتحوّل الأدب إلى مجرّد محاولة لاستنساخ صورة الواقع وقد تحوّلت حوادثه وأحاديثه إلى يقينيّات. فكلاهما يقاوم المعطى الجاهز ويفكّر خارج الحدود المسطورة لينفتح بالسّؤال والتّساؤل على آفاق أرحب وأبعاد أسمى. فكان انتقاء المقتبسات الفلسفيّة واختيارها لتصدير أربع قصص من قصص المجموعة منسجما مع هذه الرّؤية للأدب وللوجود.
في هويّة صاحب التّصدير
إذا نظرنا إلى التّصدير من حيث هويّة أصحابه، فإنّنا نقف على تنوع يكشف عن ضرب من الاعتراف بالآخر والانفتاح عليه بعيدا عن منطق الهويّة، وعن صراع الأصالة والمعاصرة، والعتاقة والحداثة، والشّرق والغرب؛ فقد اختارت الكاتبة اثنين وعشرين مقتبسا نصّيّا لكتّاب من الغرب (أمريكا، كندا، فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، النّمسا، ألمانيا، اليونان....) وخمسة مقتبسات لكتّاب من الشّرق (البحرين، السّعودية، سوريا...) اختيارا واعيا يخدم الفكرة ويجلي الموضوع من ناحية، وينسجم مع رؤاها الفكريّة والفلسفية والجماليّة. ولا نظنّ أنّ انتقاء هذه المقتبسات كان بالأمر الهيّن إذ "اختيار شواهد دون غيرها عمليّة صعبة فيها ما في الكتابة من عنت وألم الاستحضار وإرهاف السمع إلى خطابات تستجيب للنّصّ وتتفاعل معه وتحاوره بطريقة صريحة أو خفيّة"(1)
أمّا إذا نظرنا إلى التّصدير من حيث سيرة أصحابه، فإن ما يلفت الانتباه أنها شخصيّات أدبيّة وفلسفيّة وفنّيّة تجمع بينها النّزعة إلى الثورة على واقع الاستلاب والاستسلام، ورفض الجمود والتّقليد. فأندريه بريتون صاحب تصدير قصة «باب الأرق» هو شاعر وفيلسوف وأحد مؤسّسي الحركة الأدبيّة السّريالية ومنظّرها الرّئيسيّ قام فنّه على فسح المجال للعقل الباطن أو اللاّوعي كي يتحرّر من سلطة الوعي فيطلق العنان لحرّيّة التّعبير، وهو القائل: «التّمرّد والتّمرّد فقط، هو مبدع الضّوء، ولا يمكن للضّوء أن يأخذ أكثر من ثلاثة طرق: الشّعر والحرّيّة والحبّ.».
أما سوزان سونتاغ التي اقتبست الكاتبة أحد أقوالها لتصدّر به قصة «احتراقات متكسّرة» فهي روائيّة ومخرجة سينمائيّة أمريكيّة عرفت بنشاطها السّياسيّ والأدبيّ ومناهضتها لحرب الفيتنام ومقاومتها لداء السّرطان ثلاث مرات في حياتها قبل أن يضع حدّا لحياتها سنة 2004. ترى في كتابها «في الوقت ذاته» أن الأدب يحرّر الإنسان، وأنّ النّشاط السّياسيّ ومقاومة الظّلم واجب أخلاقيّ، وأنّ الكتابة تحت سطوة الخوف أفضل بكثير من الكتابة تحت سطوة الإعجاب. وصدّرت الكاتبة قصّة "سكّين النّحت" التي تحمل المجموعة اسمها بمقتبس شعريّ للشاعر النّمساويّ رينيه ماريا ريلكه شاعر القلق الذي يؤمن بأنّه «كلّما ازدادت جرأة الإنسان على التّوغّل، أصبحت الحياة أكثر جدارة للاحترام وأكثر ذاتيّة وتفرّدا».
وتصدّر قصّة "مغلق للجرد" قول للرّوائيّ والفيلسوف ورائد علم السيميائية أمبرتو إيكو الذي يرى أن ما تَعلّمنا الرّواية هو "التّعرّف على مكائد الحياة" وأنّ "الحقيقة تحلو أكثر عندما تكون محفوفة بالصّعوبات الشّائكة، والسّرّ يعجبنا أكثر عندما يصعب علينا كشفه." وتصدّر قصّة "جذور الوصيّة" مقتبسٌ لشارلز بوكوفسكي "فتى الشّعر الأمريكيّ الرّديء" كما سمّى نفسه كاشفا عن تمرّده على الشّعر وتقاليده وتحرّره من قيود الحياة "الغريبة".
أمّا عن المبدعين العرب، فقد اقتبست عن أدباء وفلاسفة ومفكّرين عرفوا بتمرّدهم ورفضهم للخطوط المسطورة على غرار قاسم حدّاد الشّاعر البحرينيّ الذي يمشي على "شهوة الغيم" والذي يرى أنّه "كلّما ازداد الإنسان معرفة ازداد أسى" وهو القائل: " تعلّمت أنّ البلاد التي أعلنت صمتها في الميادين ليست بلادي" مثلما حضرت مقتبسات للمفكّر السّعوديّ عبد الله القصيمي الذي عرف برؤاه الثّوريّة وجرأته في نقد الواقع في مختلف جوانبه ورفضه للأغلال التي تكبّل الفكر وتخنق الرّوح، وللشّاعر والمفكّر السّوريّ أدونيس المعروف بثورته على تقاليد الشّعر العربيّ مؤسّسا لنهج جديد في الكتابة الشّعريّة تتجدّد فيها لغة الشّعر ويتغيّر معنى الكلمات "عن طريق استخدامها في صنع تركيبات جديدة تدعو إلى الدّهشة" ولمحيي الدّين بن عربي الشيخ الأكبر والشاعر والفيلسوف الباحث عن الخفاء والتّخفّي الكامنيْن في الأشياء والموضوعات والذّوات في سفر داخليّ نحو الجذور يتمّ به لقاء العشق ب"الغيب المغيّب" في الإنسان، لقاء محكوم بالحلّ والتّرحال بحثا عن إعادة بناء الذّات.
كلّها، إذن، شخصيّات مسكونة بالرّغبة في كسر الطّوق، والتّأسيس لمعاني الحرّيّة والحبّ والجمال والإبداع والبحث عن المعنى وعن الذّات وسرّ الكينونة، وهي معان نجد لها صدى في المقتبسات التي اختارتها أفراح الهندال لتصدير قصص مجموعتها.
في علاقة مضمون التصدير بالقصة
تَعاضدَ التّصدير في مجموعة "سكّين النّحت" مع العنوان، وهو كذلك عتبة من العتّبات النّصيّة، في إنارة المتن القصصيّ من ناحية من خلال التّفسير والتوضيح، وفي التشويق لقراءة المتن القصصيّ وكشف المستور عن خباياه وتفاصيله والتفاعل مع أحداثه وشخصيّاته و"توريط" القارئ مع إشكاليّاته ومشكلاته من ناحية أخرى.
ومن خلال دراستنا لعلاقة التّصدير بالقصّة عنوانا ومتنا يمكن أن ننتهي إلى أن التّصدير في مجموعة أفراح الهندال يؤدّي وظائف عدّة؛ أهمّها:
1 - التّعليق والتّوضيح والتّفسير: مساعدة القارئ على تمثّل دلالات النّصّ الحافّة باعتبار أنّ "عتبة التّصدير هي إحدى النّصوص الموازية المحيطة بالنص والتي تحقّق جسرا لفظيّا وسيطا تمهّد السّبيل أمام القارئ للولوج إلى داخل النّصّ."(2)
2 - تكثيف الطّاقة الإيحائيّة في النّصّ بما يعزّز فعل الإغواء أو الإغراء بالقراءة.
3 - الكشف عن الهويّة الذّهنيّة: حيث كان التّصدير في عديد القصص علامة ثقافيّة أو كلمة سرّ تكشف عنالهويّة الفكريّة أو الفلسفيّة التي تصدر عنها أفكار الكاتبة. فـ"النّص يحيلنا على الآخر الذي يسكن الذات ويجعلها تنفتح على الوجود المشترك."(3)
فهذا التّفاعل بين التّصدير والقصّة أوجد نوعا من التّكامل بينهما في تشييد سياج أوّليّ وبناء "عتبات بصريّة ولغويّة" كما يقول جيرار جينات، من شأنها أن تضيء عتمة النّصّ وتأخذ بيد القارئ "الفعليّ" لفهم أبعاده وتمثّل إيحاءاته.
التّصدير في قصة «شكوى الجدران» نموذجاً
صدّرت الكاتبة أفراح الهندال هذه القصّة بقول فلسفي للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884-1962)، وهو مقتبس (﴿علينا أن نقوم بمسح لكلّ الأماكن التي دعتنا للخروج من ذواتنا﴾ - غاستون باشلار) يضطلع بثلاث وظائف أساسيّة:
1/ التّعليق والتّوضيح: أو إنارة المتن القصصي؛ فبين مضمون التّصدير وعنوان القصّة ومتنها تعالق كبير، وقد تضمنا دعوة إلى الانعتاق من قيود الأبديّة المكانية أو الجدران التي تخنق الرّوح وتخرج الإنسان من ذاته.
2/ تكثيف الطاقة الإيحائيّة في النّصّ القصصيّ بما يعزّز فعل الإغواء أو الإغراء بالقراءة من خلال التّساؤل عن العلاقة بين شكوى المكان الذي في العنوان ومسح المكان الذي في التّصدير؟ وعن أبعاد العلاقة بين المكان والذات؟ وكيف للمكان أن يخرجنا من ذواتنا وقد عرف عند باشلار بكونه إطار "الذّكرى" و"السّعادة" و"الدّفء الأصليّ"؟
3/ الكشف عن الهويّة الذّهنية أو المرجعيّة الفكريّة والفلسفيّة للكاتبة: يكشف هذا التّعالق بين مقتبس باشلار ومضمون المتن القصصيّ عن رؤية الكاتبة للمكان في علاقته بالذّات؛ فلئن كان باشلار، والكاتبة تشاطره الرّأي في العديد من قصص المجموعة على غرار "جهة سادسة" و"تشريح الذّاكرة" و"مسارب في الشّارع القديم"... يرى أن "البيت يحفظ ذكرياتنا من الضّياع" وأنّه "ركننا في العالم وكوننا الأوّل" فإنّه يرى كذلك أنّ المكان الذي ينجذب نحوه الخيال هو ذاك الذي يكثّف وجودنا في حدود تتّسم بالحماية باعتباره ظاهرة نفسيّة قبل أن يكون كيانا هندسيّا ، فإذا ما تحوّل إلى سجن أو مجرّد جدران تعطّل وجودنا وتجرّدنا ذواتنا وتسلبنا حريّتنا، أصبح منفى أو "مكانا معاديا". وفي قصّة "شكوى الجدران" تطرح الكاتبة من خلال اختيارها للمبنى/ السّجن فضاءً قصصيّا بجدرانه العالية وحواجزه المعدنيّة محكمة الإغلاق وأعمدة سوره المدبّبة "سؤالا مهولا" عن معنى المكان إذا تحوّل إلى سجن، وتعبّر عن "احتجاج ضاجّ بالـ«لماذا؟» "اعتراضا" على القيود التي تحرم الإنسان ذاته وتأسر روحه وتخنق "تفكيره في القفز" و"الهرب"، عقيدتها في ذلك أنّ سلب الحرّيّة "جريمة" تتطلّب صرخة إنسانيّة يوميّة، واعتراضا "يهزّ عرش السّيّد القابع في عرشه" لأنّ المكان الذي يسلبنا ذواتنا لن يكون "فردوسا" مهما تغيّرت ألوانه وطلاؤه.
الخاتمة
يرى الكاتب والفيلسوف الفرنسي موريس بلانشو أن "الكتابة حرفة مهولة، محفوفة بالألم." والكتابة القصصيّة عند أفراح الهندال ضرب من هذه "الكتابة الفاجعة" التي تقضّ مضجعنا وتحرّك سواكننا فتنحت فضاء وجوديّا بسكّين القلق الفلسفيّ؛ فتسائل الوجود وتتساءل عن الحقيقة، مستثمرة أدوات قصصيّة ترفض التّماهي مع الكتابة المعياريّة وتؤسّس لهويّة أدبيّة ترفض التّآلف مع الموجود على وجه الاتباع، ومن هذه الأدوات التّصدير الذي لم يكن مجرّد نصّ مواز أو محيط، وإنّما أداة من أدوات الإيحاء بأطياف الدّلالة التي لا تعبّر عن تجربة ذات فحسب، بل وكذلك عن تجربة وجود حاملة لأبعاد ثقافيّة وفكريّة وحضاريّة. فأفراح الهندال لا تكتب بمقتضى الضّرورة القصصيّة ووفق النّواميس التي تخنق الإبداع، وإنّما تستجيب لأصوات من الدّاخل ترفض الاستسلام وتحرّك المياه الرّاكدة وتنفتح على الإنسانيّة في أوجاعها ومحنها، تُعمل قلمها نحتا للكلمة المعبّرة عن قلق وجوديّ يرفض تقبّل الماهيات والتّصوّرات دون إخضاعها لعمق السّؤال. وهي في كتابتها لا تنغلق على ذاتها وثقافتها بل تلامس بــ"شقائها" آلام الآخر، وتعانق بفكرها عقل الآخر وصوته وتنفتح كتابتها على الوجود المشترك فكأنّ النص يهاجر على أجنحة التّصدير ليخرج من عزلته معبّرا عن تنوّع المرجعيّات الفكريّة التي تنهل منها الكتابة السّرديّة عندها وعن البعد الإنسانيّ الذي يحرّرها من الحدود التي تضيق بالإبداع وتُضيِّق عليه، فنحن جزء من هذا العالم وذاك الآخر يمثّل جزءا من إنسانيّتنا
إنّ الحضور المكثّف للتّصدير في مجموعة «سكّين النحت»، وإن كان يعبر عن رغبة أفراح الهندال في إنشاء هويّة إبداعيّة جديدة متحرّرة من الكتابة المعياريّة على وجه التّجريب والتّحديث، فإنّه كشف عن الهويّة الفكريّة والفلسفيّة للكاتبة وهي تسائل الوجود وتنحت أسئلته بسكّين يخزك حتّى لا تفكّر باستكانة. فـالحقيقة الوجوديّة كما تقول غزلان هاشمي "ترتحل وتتوارى عبر مسرح يتحوّل فيه الوجود إلى صناعة لغويّة، يسيطر فيها على العالم من يتقن قواعدها"(4) وأفراح الهندال من المبدعين الذين يحسنون صياغة أسئلة الوجود بلغة جميلة موحية تخاطب في المتلقي ذوقه وثقافته ووعيه مؤمنة في كتابتها القصصيّة بــ"الإنسان العميق" ذاك المدعو كما يقول زكرياء بن نحي "إلى افتتاح سؤال الكون وتفكيك شفراته لإعادة المعقولية إلى سيرورة الأحداث" في عالم الوجود فيه "شظايا تتحرك بلا عقلانية"(5).
(*) يصنف جيرار جنيت (G.Genette العتبات إلى نص محيط (Peritexte)، ونص فوقي (Epitexte). فالنص المحيط يحيل على فضاء النص، من عنوان خارجي، ومقدمة، وعناوين فرعية داخلية، بالإضافة إلى الملاحظات التي يمكن للكاتب أن يشير إليها، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب، كالصورة المصاحبة للغلاف، أو كلمة الناشر على ظهر الغلاف الخارجي، أو مقطع من المحكي. أما النص الفوقي، فيشمل كل الخطابات الموجودة خارج الكتاب، ولكنها وثيقة الصلة به، مثيرة لإشكالياته، باحثة في خصائصه ومضامينه، مثل: الحوارات واللقاءات والشهادات، والتعليقات، والقراءات النقدية.
(1)ابن حميد، رضا. عتبات النص في "حدث أبو هريرة قال..". مجلة الخطاب، العدد18، الجزائر 2014، ص29
التعليقات