في مثل هذه الأيام قبل قرن من الزمن، وتحديداً في الثاني من ديسمبر 1923، وُلِدت أسطورة الغناء الأوبرالي اليونانية ماريا كالاس في نيويورك، لأبوين يونانيين، وبدأت حياتها المهنية في اليونان عام 1951، لتُصبح بَعدها بسَنوات واحِدة من أعظم الأصوات الغنائية التي عرفتها البشرية على مَر التأريخ، ولكن لم يكن ذلك ممكناً قبل أن تفقد وزنها الذي كان يبلغ 105 إلى 55 كيلوغراماً، لتقف أمام ملايين المشاهدين الذين كانوا يتسابقون لحضور حفلاتها في جميع أنحاء العالم.
ماريا كالاس محاطة بالصحافيين في فندقها في روما في السابع من كانون الثاني (يناير) 1958
في صيف عام1957، كانت ماريا كالاس أشهر مغنية أوبرا في العالم. صوت سوبرانو ساحر، تتنافس على دَعوتها أعظَم المَسارح ودور الأوبرا في العالم، لتُقَدِّم لا ترافياتا لفيردي أو توسكا لبوتشيني. كانت تعيش نجاحات متواصلة، حَوّلتها إلى نجمة ليس فقط على المسرح، بل على مستوى الحياة الإجتماعية ومُجتمع النخبة. كان آرسطو أوناسيس، الذي كان يُنادى بـ"آري" إمبراطور الشحن وأكبر مالك للسُفُن في اليونان والعالم، رجلاً عصامياً وُلِد فقيراً ثم أصبح مليارديراً بعد الحرب العالمية الثانية، عَن طريق شراء السُفُن وإعادة بيعها للأثرياء، مولعاً بالفنون، ومِنها الأوبرا، وقد سمع بكالاس، وحَضَر حفلاتها، وكان مُعجباً بها بشِدّة ويتمنى لقائها. قامت الصحفية إلسا ماكسويل بإقامة حفل لتعريف كالاس بأوناسيس. حَصل التعارف خلال الحفل بشكل طبيعي، ثم مضى كل الى سبيله، فكلاهما كان متزوجاً، وما كان يمكن أن يحدث شيء على الفور، ولكن بعد عامين، تفجّرَت مشاعِرَهُما الجيّاشة.
زهور ومجوهرات
بعد اللقاء الأول، أصبحت كالاس هاجساً بالنسبة لأوناسيس، إذ بات يُلاحقها بإرسال الزهور والمجوهرات، وهي كانت لا تزال متزوجة مِن مدير أعمالها الثري جوفاني مينجيني، فقاومت في البداية، لكنها لم تصمُد ورفعت الراية البيضاء في صيف 1959. كان ذلك خلال دعوة أوناسيس لشخصيات مَعروفة إلى يَختِه الفاخِر "كريستينا"، حضَرتها هي وزوجها إضافة الى غريس كيلي والأمير رينيه وتشرشل. يومها، انكشفت العواطف الملتهبة التي كانت تعتلِج في قلبيهما، من خلال مواقف الغَزَل المُتكررة، فقد صَعدا الى القارب كزوجين، ليَنزِلا كعاشِقين. ألقَت ماريا بنفسها في هذه العلاقة بتهَوّر دون تفكير بتبعاتها ونهايتها، فانفصلت عن زوجها، وألغَت بعض جولاتها العالمية، ولم تعُد تواظب على تمارين صَقل صوتها فتراجعت إمكانيتها الأدائية. أما أوناسيس فقد ملأ خزانتها بالملابس، وبيتها بالزهور، بل وإشترى لها جندولاً في البندقية، وشقة فارهة في باريس، واندفع في البَدء بهذه العلاقة، وبات يتصَرّف كمُراهق عاشق، يتهَرّب معها مِن عدَسات التصوير التي كانت تُلاحقهما ليَسرقا بعض اللحظات الجميلة. لكن بَعد سَنوات بدأ يَنشغِل عنها، وانقطعَت حتى باقات الزهور، ففي النهاية ما يُهمه هو أحلامه بالثراء والشهرة. كانت علاقتهما عاطفة غير عقلانية لا مستقبل لها، وكانت هي أكبر مُتضرر مِنها، خصوصاً بعد فقدانها لوَلدها منه، هوميروس، الذي وُلِد ميتاً عام 1960، وكان أملها الوحيد لاستمرار هذه العِلاقة.
ماريا كالاس خلال مؤتمر صحافي في 8 كانون الثاني (يناير) 1958 في روما
الضربة القاضية
في الستينيات بدأ صوتها يَنهار تدريجياً، بعد سنوات من إجهاد العمل، وأداء أدوار متنوعة بطبقات صوتية مختلفة، جَلبَت لها شهرة عالمية، ولكن أيضاً مَسيرة مهنية قصيرة. بعدها جاءت الضربة القاضية التي تلقتها كالاس، حين فاجأ أوناسيس العالم بتركه لها للزواج من جاكلين كينيدي، ليس مِن أجل الحُب، بل لمصالح إقتصادية واجتماعية، لم تكن كالاس لتحَقّقها له، فقد كان يَسعى حينها لتوسيع إمبراطوريته في الولايات المتحدة. بَعد اغتيال كينيدي، غادرت أرملته جاكلين أميركا مع طفليها وإختارت العيش قُرب أوناسيس، وإنتهى الأمر بالزواج الذي كان يُخَطّط له الطرفان، فهو يَضمن لجاكي كما كانوا ينادونها، أسلوب حياة فاخر تعَوّدت عليه، بينما يضع أوناسيس بدائرة الضوء التي سَعى إليه بجانب أشهر إمرأة في العالم. كانت كالاس تأمل أن تكون السيدة أوناسيس، لكنه شَعر أن زواجه من جاكي سينفعه أكثر. حين علمت كالاس بزواجه عن طريق الصحافة عام 1968 صُدِمت وفَقَدَت إرادتها لمواجهة الحياة، فضَعُف قلبها، وخَفُت صوتها، وباتت وحيدة في شقتها بباريس. لكن أوناسيس اكتشف مُتأخراً قيمتها في حياته كحُب صادق وحُضن دافيء يلجأ إليه حين يتعب أو يواجه مشكلة، فعاوَد الاتصال بها في شقتها في باريس، بعد أن تَوالت عليه ضربات القدر، أولاً بفقدانه ابنه الوحيد مِن زوجته الأولى بحادث تحطم طائرة عام 1974، لَتلحق به أمه بعد عام بسَبب جرعة زائدة من الحبوب المُنومة، إلى جانب تدهور علاقته بجاكي بسبب انشغالها عنه بالحياة العامة، والتي كان يُخَطّط للانفصال عنها، لكن وفاته حالت دون اكتمال الطلاق.
ماريا كالاس في مطار ميلانو في 16 كانون الثاني (يناير) 1958
يمكن تلخيص قصة حُب آرسطو أوناسيس وماريا كالاس، بأنها تراجيديا يونانية حديثة، تُمَثل إمتداداً لتراجيديات التاريخ اليوناني المَعروفة، فهي علاقة تراجيدية ورابطة مُعذّبة استمرت لِعَشر سنوات، تخلّلها بعض السعادة والجُموح، إلا أنها إنتهت بفناء مُزدَوج للعاشقين، بسَبب الغرور والتعطش للجاه والسُلطة مِن ناحية أوناسيس، وبسَبب الحاجة الماسّة للحُب من ناحية كالاس. طريقتان مختلفتان للعيش، وثُنائي كان يبدو مُنسَجِماً لكنه هَش، حَطمه زواج آري المفاجيء مِن جاكي. إلا أن أوناسيس لم يتوقف أبداً عن حب كالاس، ومحاولة رؤيتها سِراً حتى بعد الزواج. وعلى غرار نهايات أغلب أساطير التراجيديا اليونانية، لم تكن نهاية العاشقين سعيدة. فبَعد رحيل ابنه تدهورت حالة أوناسيس الصحية وبدأ يعاني مِن مَرض مُزمن، وقبل وفاته أصَر أن يُعالَج في باريس قُرب حُبّه الوحيد، رغم أن الأطباء نصحوه بالذهاب لأميركا. زارَته ماريا في المستشفى عِدّة مرات حتى وفاته عام 1975 وهو يَحتضِن شالاً أحمر أهدته إياه! بَعد رحيله بعامين، وبَعد تخليها عن حياتها المهنية من أجل حُب لم يكتب له النجاح، ماتت ماريا كالاس صاحبة أعظم صوت في القرن الماضي، وهي تعاني من الاكتئاب وفقدان الشهية، وحيدة بمُفردها بنوبة قلبية، عَن عُمر ناهَز 53 عاماً في باريس في 16 سبتمبر1977.
ماريا كالاس على متن قطار في روما في الأول من أيلول (سبتمبر) 1958
أيقونة خالدة
كفنانة لا تزال ماريا كالاس تعتبر مغنية ومُمَثِّلة أوبرا لا مثيل لها الى يومنا هذا، أعادت تعريف الـ "بيل كانتو"، وأعادت المصداقية لأدوار الأوبرات التي كانت تقدمها. فقد أخَذَت فنّها على مَحمَل الجد، وعاشت شخصياته وجَسّدتها بشكل رائع. رغم عُمرها القصير ورحيلها قبل ما يقرب النصف قرن، ما تزال كالاس أيقونة خالدة تشغل العالم في مئوية مولدها. فهي كشَخصية خيالية لا تزال على قيد الحياة، واسمها لا زال يجذب الزبائن لزيارة الأماكن التي عاشت فيها وإرتادتها، ويُلهِم الكتاب والمخرجين والنُقّاد لتناول حياتها بإستمرار في الروايات والأفلام والمَسرحيات والإعلانات! فخلال زيارتي لمدينة سِرميوني، إحدى مدن بُحيرة غاردا الإيطالية، وأثناء تجوالي بشوارعها الجميلة، صادَفت مركز إستجمام للمياه الحرارية، وعِند مدخله لافتة كبيرة رُسِمَت عليها صورة لكالاس، والى جانبها عبارة "كالاس دائماً كالاس"، وكُتِب تحتها "في قاعة المركز توجد ملابس ومجوهرات تعود للديفا"، وعند دخولي لقاعة المركز حيث الإستعلامات، وقفت لأتأمل عارِضة من الزجاج، وُضِعَت فيها مجوهراتها وثلاث مِن بدَلاتها التي كانت ترتديها في أوبراتها. وعلى بعد بضع دقائق مِن المركز هناك فيلا كبيرة تُطِل على بحيرة غاردا، كانت كالاس تقصدها في فترة الخمسينيات مع زوجها آنذاك جيوفاني مينيجيني، سَعياً للسَكينة والسلام، بعيداً عن صَخَب الشهرة وأضوائها، تحوّلت اليوم الى فندق فخم.
ماريا كالاس في باريس عام 1971
أما كإنسانة فقد كانت حياة ماريا كالاس قريبة مِن بعض شَخصيات الأوبرات التي كانت تؤديها على المَسرح. طفولة غير سعيدة تحت سُلطة والدتها، زواج يفتقد للحُب، شهرة عالمية، صِراع مع المُخرجين والصَحافة، الى جانب علاقتها الشائِكة مع أوناسيس. حياة قصيرة، لكن حافلة بالحُب والمأساة، والألق والإنهيار. لذا رَغم ما أحيطت به حياتها من قصص، فيها مِن الواقع ومِن الخيال، نقلاً عن عائلتها أو أشخاص عاصروها، إلا أننا نبقى مَسحورون بألقها، الذي كان يَجمَع.. بين ألوهية صَوتها الذي إستحَقّت عليه لقب الديفا، أي آلهة الغناء، مع عيونها الكبيرة المؤطّرة بالكحل، وأناقة أزيائها.. وبين الضُعف الإنساني، الذي كان يَظهَر في شخصيتها. بل وبقيَت الأساطير تلاحقها حتى بعد وفاتها. إذ يقال بأن رمادها سُرِق مِن مَقبرة بير لاشيز في باريس، وبَعد الإبلاغ عَن السرقة عادَت الجَرّة للظهور بنفس المكان! لذا حاوَل فيلم السيرة الذاتية "ماريا" للمخرج بابلو لارين، الذي أُنتِج مؤخراً بمُناسبة مئوية مولدها، وتقوم ببطولته النجمة أنجلينا جولي، أن يَبذل جُهداً للتمييز بين الواقع والخيال، وبين الحقيقة والأسطورة، في حياة كالاس.
التعليقات