الديمقراطية، كمبدأ أساسي، هي "حكم الشعب لصالح الشعب". لكن عندما تريد اختبار الديمقراطية عملياً، عليك أن تكون أكثر دقة لناحية التعريف، لأنَّ ذاك ليس كافياً. عندما يقال، على سبيل المثال، إنَّ الديمقراطية التوافقية تتعارض في الواقع مع المبادئ الأساسية للديمقراطية في بعض القضايا، ينبغي عدم إنكار أنها تقدم حلاً مناسبًا وحديثًا للغاية بالنسبة إلى الدول المتعددة الهويات، مثل هولندا وسويسرا، واللتان أعطتا مثالين جميلين للحكم. لذلك، يجب علينا، كأكراد، أن نجد النموذج الخاص بنا للديمقراطية، وبما ينسجم مع وضعنا الثقافي والقبلي والتاريخي، وليس أن نطبق ديمقراطية مستوردة مثل ديمقراطية سويسرا أو الولايات المتحدة، ونقوم في المقابل بممارسة العمل السياسي من منظور معايير تاريخية لا ترتبط بالحاضر.
عطفاً على ما تقدم، فإنَّ أفضل ما يمكن تطبيقه باعتباره أسلوباً خاصاً بالديمقراطية الكردية هو "الديمقراطية الجماعية"، حيث تصبح المجموعات وحدات سياسية مستقلة، في حين يجري التصويت للمجموعات بدلاً من الأحزاب والقوائم، نظراً لأن المجموعات صغيرة، وأغلبها جهوية ومحلية. ويجب توسيع اللامركزية الإدارية بالتوازي مع هذا النموذج الديمقراطي، مما يعطي المجموعات صلاحيات إدارية أوسع. وبالطبع، سيؤدي ذلك إلى واقع سياسي أكثر تمثيلاً على المستوى الشعبي، ويمنح المواطنين خدمات أفضل وأجدى بالثقة.
من فوائد الدائرة الصغير والضيقة أنها لا تتيح فرصة للتهرب من المسؤولية. وبشكل عام، فإنَّ هذا النمط من الديمقراطية سيحافظ على طبيعة المجتمع المعهودة منذ مئات السنين، وبالتالي يوجد أرضية مشتركة بين المجتمع والثقافة وبين الديمقراطية كأرضية للممارسة السياسية. وكمبدأ عام، فإنَّ أي ظاهرة اجتماعية إذا تم إنكارها ونفيها، ستؤدي في النهاية إلى مشاكل خطيرة، لكن إذا تم دمجها في الإطار السياسي، فسيختلف الأمر.
إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان
لا تزال الفئوية أو الجهوية واحدة من أبرز سمات المشهد السياسي في العراق وكوردستان، وهذه الظاهرة الجماعية ليست فريدة من نوعها، فهي شائعة في عموم الشرق الأوسط، وخصوصاً في البلدان ذات الثقافات القبلية الراسخة. وهذه الظاهرة ذات جذور عميقة وقوية في تاريخنا، وقد تشكلت من الفهم القبلي الممتد إلى زمن النبلاء والشيوخ، والرجال الكثر الذين يحيطون بهم. وقد شكلت هذه الرؤية المستقبل لا الماضي وحده. وخلال الثورات التي عرفتها الشعوب على مدى المئة عام الماضية، ثبت أنَّ هذه الظاهرة متجذرة بعمق، لدرجة أن الطريق الرئيسي لأي شخص يريد أن يلعب دورًا سياسيًا لم تكن تمرّ عبر الأحزاب والتنظيمات، بل عبر الانخراط في لعبة الفئوية والجهوية وما يماثلهما. وإذا لم يفعل شخص ما ذلك، ولم ينضم إلى مجموعة هذا المسؤول أو ذاك، فسيكون من الصعب عليه الحفاظ على هويته. وبصورة أوضح الآن، ومن الناحية الشكلية، فلكي يلعب أي شخص دوراً سياسياً، يجب أن يكون عضواً في حزب أو منظمة، لكن هذا التدبير في الواقع سطحي، وقد عَبَر هذا الأمر من السياسة الحزبية والعمل التنظيمي إلى عمل الحكومات والمؤسسات والوزارات.
إقرأ أيضاً: أرى رؤوساً (في إيران) قد أينعت!
إن عبور ظاهرة الفئوية إلى عمل الحكومات والمؤسسات أخطر من عبورها إلى عمل الأحزاب والتنظيمات، لأن عمل الحكومات والمؤسسات العامة هدفه، في نهاية المطاف، الخدمة العامة، لكنها، بعد ما تقدم، تتحول إلى خدمة مجموعة معينة دون سواها. وهذا الأمر يهدم المغزى الحقيقي للمؤسسات، ويرسم خطاً حاسماً بين الجماعات والمجتمع ككل، والأخطر من ذلك أن لا معنى للديمقراطية والانتخابات والمناصب التي يمكن من خلالها خدمة الناس، إذا كانت المحصلة كما أسلفنا. ولحل هذه المعضلة التي امتدت من ثقافتنا وتاريخنا إلى الحاضر، ويبدو أنها تحتل مستقبلنا، ستكون الديمقراطية القبلية أو الديمقراطية الطبقية مع بعض التعديلات هي المنقذ للمجتمع.
التعليقات