منذ احتلاله عام 2003، يتابع المواطن العراقي باهتمام مواقف الأحزاب والكتل السياسية العراقية وتحركات قادتها، وعلى وجه الخصوص الشخصيات التي يعتقد قياساً بما هو موجود على الساحة السياسية العراقية من بعد سقوط النظام السابق، أنَّ لديها نفساً وطنياً واضحاً ورغبة صادقة في تغيير الأوضاع العامة وبناء مؤسسات الدولة وتوجيه بوصلة العراق نحو التجديد والبناء، سيما في الشأن الاقتصادي والسياسي والمعيشي للمواطنين دون تمييز. لكنَّ الأمور ما زالت تسير خلاف ما كان المواطن يتوقع. فحال الفرد العراقي على كافة الصعد الاجتماعية والمعيشية والصحية والأمنية، لا يختلف اليوم عن حال من عانوا زمن دكتاتورية النظام السابق، حيث وصل بهم الأمر إلى بيع الكتاب والباب والشباك لسد رمق أبنائهم. فضلاً عن شدة القلق والهواجس التي يعانون نتيجة فساد وسوء إدارة السياسيين الجدد، التي يكتنفها الكثير من النفاق والانتهازية الشعبوية في مسألتين: منسوبية الأفضلية الشعائرية لغسل الأدمغة. والثانية: الادعاء كطبقة سياسية لطائفة كما يزعمون كانت تعاني دون سواها زمن النظام السابق.

على أساس هذين العنصرين، والدور السلبي الذي لعبته بعض الأطراف السياسية ومنها قوى المجتمع المدني والأحزاب الوطنية التقليدية بطريقة لا تخلو من السذاجة والمجاملات على حساب مصالح الأمة، لم تتمكن هذه الطبقة في المقام الأول من سحب مشروع السلطة لصالحها دون رجعة وحسب، بل بالرغم من أنها لا تمثل في أفضل الأحوال حسب نتائج الانتخابات الخمس السابقة أكثر من مليون ونصف المليون مواطن من مجموع أكثر من 40 مليون عراقي، تهيمن دون وجه حق على القرار الجمعي للمجتمع العراقي ومصادرة حق الشعب كمصدر للسلطات للبت في القضايا المصيرية للعراق، ومنها مصالحه الجيوديموغرافية وثرواته الوطنية ووحدة أراضية وأمن مجتمعاته.

إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟

وعلى صعيد آخر، تمكنت من عسكرة الأحزاب وتطبيع وجود مسلحيها في الحياة العامة بشكل منظم؛ التفريط بمركزية الحكم ووحدة العراق وفقاً لمبدأ التوافقية والمحاصصة الطائفية التي جاءت بـ"الفيدرالية" بعيداً عن أي منهج عقلاني يضمن حقوق الجميع بواقعية وحكم القانون؛ إشاعة الفساد وهدر المال العام والإثراء والنهب والسرقة المنظمة على أعلى مستويات الهرم السلطوي دون عقاب أو مسائلة، وفق مبدأ من أين لك هذا؟؛ توزيع الموارد المالية المتأتية عن صادرات النفط وعائدات الجمارك الحدودية بين الأحزاب وقادتها على أسس طائفية وعرقية وقومية من باب المجاملة السياسية على حساب المواطن والمحافظات الفقيرة؛ القصور في بناء مؤسسات الدولة وأهمها الجيش والشرطة والأمن وتقاسم الولاءات فيها على أسس طائفية شلت أداء العاملين، وتفضيل الوصوليين والمنتفعين والجهلة والمحتالين على المخلصين منهم؛ البون الشاسع بين معيشة المواطنين من ناحية المرتبات والسكن وسوء الخدمات، قياساً بأصحاب النفوذ ومنتسبي أحزاب السلطة في بلد غني لم يعد يوفر للمواطن أبسط مقومات الحياة وأهمها الطعام والأمن والسكن.

معضلات واسعة وكثيرة معالجتها تحتاج إلى الجدية والإخلاص والصدق والتعاون، وفق برنامج جبهوي معاصر تجتمع على أرضيته جميع الأطراف والقوى الوطنية العراقية المعارضة، التي تشعر بالمسؤولية الوطنية والأخلاقية لإنقاذ البلد ومستقبل أبنائه.

إقرأ أيضاً: تذكرة ذهبية للمستقبل

إنَّ ما يثير الاستغراب عدم إدراك العراقيين، سيَّما الأغلبية الصامتة ومنتسبي الأحزاب التقليدية وما يسمون بالمستقلين، حقيقة تناغم رأي الإدارة الأميركية مع تمنيات أصحاب السلطة الطائفيين لتقييد المجتمع العراقي وعدم ضبط إيقاع مصالحه الوطنية، بهدف تأمين مصالح الطرفين على مستوى العراق والمنطقة. فضلاً عن المبالغة في حصر الأمور في نطاقها الضيق، والميل إلى عدم النظر بجدية لتوسع دائرة الاحتمالات المتعلقة بتفكيك الدولة العراقية وأسبابها المعقدة... وما يدعو للقلق أيضاً، تعامل القسم الأكبر من السياسيين العراقيين مع أمور بلدهم المصيرية بشكل غير مسؤول. ولمن الغرابة بمكان انقلاب المثقفين واليسار العراقي على مبادئهم وأفكارهم ومواقفهم حد قلب المعادلة والالتحاق بركب المطبلين لتجميل صورة ما يسمى بالعملية السياسية والدفاع عن مظاهرها الأيديولوجية الزائفة، الأمر الذي جعل الأزمة تتأرجح بين العودة للنهج القديم أو الانهيار الكامل.

إنَّ الطبقة السياسية التي أصبحت صاحبة نفوذ ومال وسلاح، لم تعد ماسكة بالسلطة فحسب، إنما شدت قبضتها على السياسة والدولة معاً. فما يشاع عن أحزاب المعارضة خلف كواليس السياسة ودهاليزها العلنية والسرية، لا يعبر عن الحقيقة لتغيير نظام الحكم وإحلال العدل، بقدر ميلها للمشاركة في السلطة والجاه والمال. إن قناعتنا مهما قيل: التغيير لا يمكن أن يجد طريقه ما لم يُطرد المنافقون والانتهازيون، المتقلبون والمنقلبون، من لدن أي حركة سياسية تطمح لاستقطاب الناس وتحقيق أمانيهم في العيش والسعادة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي والأمني. وما لم ينهض المجتمع برمته ليتحمل مسؤولياته ونزع البراءة الساذجة والتفكير العاطفي الذي لا جدوى منه عن كاهله. إذ لم يعد مجالاً لاستمرار هذه الطبقة في حكم البلد بهذه الطريقة السافرة دون أن يزعزعها أحد.

إقرأ أيضاً: أرى رؤوساً (في إيران) قد أينعت!

لا نظنّ أنَّ أحداً يجهل أحوال العراقيين ونمط صراعاتهم النفسية والمجتمعية التي سببها المعارضة السابقة والمتسلطة اليوم على رقاب العراقيين لأكثر من عقدين، لم ينتج سوى زيف ادعاءات كاذبة. ولا نظن أن "الموقف"، إذا ما سيطرت أحزاب الإسلام السياسي على المجالس المحلية في أغلب المحافظات، وأصبحت أكثر تفرداً وتأثيراً في البرلمان الاتحادي، سيتغير! لكن نتساءل: كيف ستكون المعادلة السياسية للمعارضة باتجاه تحقيق الدولة المدنية بدل نظام التوافقية الطائفية الشوفينية في قادم الأيام؟ السؤال موجه هنا إلى جميع القوى السياسية المعارضة.

ننتظر الجواب على مهل، وسيختبر التاريخ كل طالب صيد... وظن العاقل خير من يقين الجاهل!