يبدو أن قصص ألف ليلة وليلة للدبلوماسية العراقية لن تنتهي إلا على خبر مُفجع بالفضائح والنوادر؛ فكل قصصها تَعجُّ بالمضحكات المبكيات، وتموج بتفاهات دبلوماسيّي آخر الزمان وخزعبلاتهم وفضائحهم المُخزية، ففي كل يوم نادرة دبلوماسية تطل علينا برأسها الأبله عبر شريط الحياة والإعلام، وفي مواقع الفضائح الرقمية، وصفحات الإثارة والفكاهة السوداء.
قصصٌ مازالت مستمرة من نوادر الدبلوماسية العراقية، ما إن تختفي واحدة حتى تظهر الأخرى، وكأنها متواليات من المخازي تعبث بسمعة الوطن.
لعلَّكم تتذكرون (البنجرجي)؛ الذي أصبح سفيرًا في موريتانيا، وهو يتجوَّل في دشداشة النوم داخل فنادق نواكشوط مع مطربة موريتانية مغمورة، وكذلك سفير قاذفات "آر بي جي" في لبنان، وعنترياته في قصف الأصول الدبلوماسية -وهو محاط بالمسلَّحين-، ودبلوماسي الصور "الحميمية "في الأردن مع الفنان راغب علامة، وسفراء العزاء واللطم وطبخ القيمة داخل السفارات العراقية، وسفراء تجارة المشروبات الروحية والصفقات الحزبية التجارية.
لقد ثارت دهشتنا ونحن نتجوَّل بين الأخبار والفيديوهات؛ إذ فوجئنا بخبر غريب، بوجود "جمهورية اسطنبول" موجودة على خريطة العالم، وهي براءة اختراع في الجغرافيا السياسية لدبلوماسية عراقية، قدمت نفسها كدكتورة مسؤولة عن "ملف المؤتمرات والعلاقات الثنائية بالقنصلية العراقية في جمهورية إسطنبول". لا أدرى هل هي زلة لسان بسبب الارتباك؟! أو تجميل تضخم الشفاه بالدهون؛ أم أنها مخرجات لثقافة دكتوراه مزورة، أو هي مخرجات لجامعات خُردة تنتشر كالأرَضة، تمنح حرف "الدال" والغباء لقاءَ المال.
يُقال: إن هناك معهد الدبلوماسية في وزارة الخارجية العراقية، وهناك نظام دبلوماسي يُؤطِّر العملَ في الوزارة، لكنَّ المخرجات لا تعكس صورة الدبلوماسي الحريص على رفع شأن سُمعة بلده، من خلال تقديمه لصورةٍ إيجابيةٍ عن شعبه وثقافته، وتجنُّبه لإحراج بلاده، فهناك نقصٌ واضحٌ في الثقافة والكياسة والسياسة لمعظم الدبلوماسيين العراقيين. ومازالت السفارات موطنًا للحزبية والمحسوبية والقبَلية والقومية، ومرتعًا للصراعات والتكتُّلات والقيل والقال.
مازلنا ندور في فَلك سياسة الفوضى والانقسامات الحزبية، وهدْر الزمن. مازال السفير المرشح يهبط على بناية الوزارة ببرشوت الحزب والإخوانيات، وهو مُدجَّجٌ بأسلحة الجهل الثقافي والجغرافي، وبفتوى الطائفة، وقصاصة رئيس الحزب. وليس هناك مَن يجرؤ على منعه من دخول بوابة الدبلوماسية، والسفر جوًّا إلى محطات الاستراحة والصفقات، أو يحرمه من نشوة السلطة والمال والتجارة.
والمأساة تَكبُر، حين تتضخم رئة الدبلوماسية بما يدخلها من مركبات سامة، مصدرها ذلك الزفير الخارج من أنوف جهلة الدبلوماسيين، وتصبح المأساة أكبر وأكبر عندما يصير الوزير قدوةً لهم في صناعة وتصدير الجهل.
ولعلكم تتذكرون تخاريف الجعفري وزير خارجية العراق الأسبق؛ عندما قدَّم لنا معلومة جديدة بأن نهري (دجلة والفرات) ينبعان من إيران؟ مثلما قدَّمت اليوم بنت الخارجية معلومةً أخرى بأن إسطنبول هي "جمهورية" وليست أكبر مدينة تركية تقع على بحر مرمرة!
ومثلما لم تستطع العملية السياسية أن تُنقذ العراق من الفقر والظلمة والمرض، والأزمات والقتل والفوضى -خلال عشرين عامًا-؛ فإن الخارجية هي الأخرى لم تستطع أن تَخرج من "قمقم" كونفوشيوس العراق"؛ إبراهيم الجعفري، والمشكلة أحيانًا لا تعود للوزير فقط؛ وإنما للنظام السياسي الفاسد الذي ينخر في عظام الحياة العراقية.
لا شك أن الأدلة كثيرة ودامغة؛ فمازال الجواز العراقي يحتل المرتبةَ الأخيرة في جوازات الأوطان المتقدمة والنامية، وليس ذلك فحسب؛ بل يحتل المرتبة ما قبل الأخيرة بين أسوأ الجوازات العالمية بعدد (29) وجهة عالمية فقط، مُتقدمًا على الجواز الأفغاني الذي يتربع على المركز الأخير؛ حيث يأتي في المركز (108) من أصل (109) -بحسب تصنيف مؤشر هينلي لعام (2023) -.
وهناك الجواز الدبلوماسي الذي يُوزَّع مجانًا على الأقرباء والأحباء؛ ما جعل لجنة النزاهة النيابية العراقية ترفع دعوى قضائية ضد وزير الخارجية؛ لعدم إفصاحه عن الأعداد الحقيقية للجوازات الدبلوماسية البالغة أكثر من (45) ألف جواز دبلوماسي، وهو رقم هائل لا يتطابق مع ما هو مقررٌ دوليًّا؛ حيث ينبغي ألا يتعدى عن ثمانمائة جواز -وفق القانون والبروتوكولات المعمول بها عالميًّا-.
ويُقال -حسب شكوى النزاهة-: إن الجواز مُنِح لمَن هبَّ ودبَّ من أقرباء السياسيين وأسرهم، ولشخصيات غير عاملة في السلك الدبلوماسي، ولأخرى متورِّطة في ملفات الفساد وغسيل الأموال، إضافةً إلى راقصات وعارضات أزياء ومشاهير "تيك توك" في العراق، وكأنها حلوى مجانية تُوزَّع على المُقربين؛ والسبب -حسب التقارير الدولية- يعود إلى ظاهرة "فقّاعة النُّخب السياسية، والمحسوبية والفساد".
وبحسب اتفاقية جنيف، يَحِق لكل دولة عضوة في الأمم المتحدة إصدار ألف جواز دبلوماسي لكل مئة مليون نسمة من عدد سكانها. وفي اليابان التي يبلغ عدد سكانها (125) مليون نسمة أصدرت ألف جواز دبلوماسي فقط!
وقصة الدبلوماسية العراقية لن تنتهي دون خسائر، مادامت دهون الجهل تترسب على جدران السياسة مسببةً تصلبًا في شرايينها، وعِللًا في جسدها، واحتقانًا مرَضيًّا في منافذ تَنفُّسِها؛ فلا نرى مكسبًا يُريح القلبَ المفجوعَ بالمآسي والأزمات، ولا دبلوماسيًّا مُتحضرًا يتحدث بمنطق الكائن البشري المثقف المنفتح على ثقافات العالم. فالأزمة مستمرة؛ لأن الدبلوماسية من صُنع الحزب الغيبي، والواقع المُهترئ بالفساد، والمنظومة السياسية الخلَّاقة بروح الطائفية وأمراضها السرطانية، وسادية الحقد والضغينة، وغل الصدور.
من حق الناس -وبالذات الشباب- التعبيرُ عن أفكارهم؛ بتغريدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي: بالفكاهات والنقد والتندُّر على دبلوماسيي الصُّدفة، وما يعكسونه من ثقافة بدائية في السلوك والجغرافيا والتاريخ والإتيكيت.
إن ما يحدث في ضجيج الدبلوماسية العراقية يُثير الاشمئزازَ حقًّا، ويُشوِّهُ سُمعةَ (عراق الثقافة والحضارة) أمام العالم؛ فهذا غباء لا يُغتفر عندما يقول الدبلوماسي مغردًا: " جمهورية إسطنبول". ويسأل آخر الخارجية باستهزاء: " منين تجيبون هاي الشكول"، وبتندُّر تقول مغردة: "عشر سنين بتركيا وما أدري بإسطنبول جمهورية. شكرًا عالمعلومة دكتورة زينب". ويُعلق مغردٌ بفكاهة خبيثة:" تفضل أخي العزيز ... شوف الدبلوماسية العراقية التي اكتشفت بأن هناك "جمهورية إسطنبول" على خريطة العالم!. ويرد آخر بحُرقة: "تشويه حقيقي لسمعة بلد بحجم العراق، الله لا يعطيكم العافية ...فضحتونه والله". ومغرد آخر يُضيف بحُرقة: " فضحكم الله وأخزاكم في الدنيا والآخرة! “.
التعليقات