يفرض قرار محكمة العدل الدولية إجراءات موقتة على الاحتلال الإسرائيلي، ويطالبه باتخاذ خطوات لمنع الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها.
يشكل هذا القرار منعطفًا مهمًا في مسار القضية الفلسطينية على الساحة العالمية، ويحدد الأسس القانونية لتحقيق العدالة.
يمثل القرار حكمًا نموذجيًا، يتسم بالسلامة القانونية والعدالة في التعامل مع تعقيدات الاحتلال الإسرائيلي، ذلك لأنَّ القرار يفرض ترتيبات تقتضي حكمًا وقف العدوان ليمكن الالتزام بها.
وما يزيد من أهمية هذا الأمر هو أنه صدر بأغلبية ساحقة، إذ أيده 15 من أصل 17 عضوًا في المحكمة.
فضلاً عن ذلك، فإنَّ رفض المحكمة لطلب الكيان رفض القضية يرسل إشارة قوية، تشير إلى اعتراف ضمني من قبل المحكمة بوجود إبادة جماعية.
كما أنَّ فطنة المحكمة بالامتناع عن إصدار حكم بوقف القتال تؤكد أن المطلوب معالجة المجموعة الشاملة من جرائم الإبادة وليس مجرد وقف العدوان العسكري، لا سيَّما أنه عدوان من طرف واحد في مواجهة مقاومة مشروعة من الطرف الثاني.
كما أنَّ هذه الترتيبات لا تكتفي بمحاسبة الكيان على جرائم الإبادة الجماعية، بل أيضًا يعتبر أولئك الذين يقدمون الدعم للعدوان كشركاء في جرائم الإبادة.
يظل قرار وقف اطلاق النار مرهونًا بعوامل خارجة عن نطاق اختصاص المحكمة، إذ أنَّ الاعتراف بأنَّ المحكمة، باعتبارها محكمة عدل، تفتقر إلى إمكانية تنفيذ وقف إطلاق النار دون دعم من مجلس الأمن، وهنا فإن الفيتو الأميركي المتوقع يقف حاجزًا أمام احتمالات تنفيذ القرار.
ومن أهم ما في هذا القرار أنه لا يمكن تنفيذه إلا إذا أوقفت إسرائيل عدوانها، فضلاً عن مطالبة المحكمة إسرائيل بدليل ملموس على الالتزام في غضون شهر، وهو مطلب غير مسبوق يضخ إحساسًا بالإلحاح ومبدأ المساءلة في عملية الحل، وفي خروج عن القرارات الأممية السابقة. أي أنَّ القرار يتحدى إسرائيل لإثبات التزامها بالترتيبات المنصوص عليها ضمن إطار زمني محدد، مما قد يضع معيارًا جديدًا في المسارات الدولية القضائية والسياسية.
وأقول إن وقف كل عمليات الإبادة يعني حكمًا وقف القتال، لأنه لا يمكن تطبيق الترتيبات إلا بوقف الهجوم. وحيث أن قرار وقف القتال يعني أن على الطرفين ذلك فهو لا يناسب المقاومة كحركة تحرير.
أما الترتيبات التي صدرت فموجهة إلى العدو فقط، لأنه هو المتهم بالإبادة الجماعية وليس أهلنا في غزة.
أما حق الدفاع عن النفس الذي تدعيه إسرائيل وتدعمها فيه أميركا وبريطانيا، فلا يسري كدفاع بالنسبة لسلطات الاحتلال ولا لسلطات الإبادة، فسلطة الاحتلال لا تحتاج للدفاع عن النفس لأن بإمكانها إنهاء احتلالها وتنتهي مشكلتها.
للمرة الأولى، يجد الكيان الصهيوني الآن نفسه محكوماً بالقانون الدولي، والملزم لجميع الدول، إذ لا يشير القرار إلى تحول في ديناميكيات المساءلة الجيوسياسية فحسب، بل يثير أيضًا أسئلة محورية حول الآثار المترتبة على سلوك الكيان والرد العالمي على إجرامه.
ومن جملة النتائج بالغة الأهمية استشهاد المحكمة في حيثيات الحكم بشهادات مستقلة من المنظمات الأممية وليس بما يدعيه الطرفان فقط.
كما أن أمر الترتيبات منع إتلاف أي مستندات تثبت جرائم العدوان، هو إنذار له، ويدل على أن ذلك من عادته.
أما اتهام رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو بأن المحكمة معادية للسامية، فما هو إلا تكرار بائس لادعاءاته الدائمة.
وأظهر قرار المحكمة أن الإبادة الجماعية ليست حجة مقبولة للدفاع عن النفس الباطل الذي تدعيه إسرائيل ومن يدعمها.
أمَّا الادعاءات ضد منظمات الأمم المتحدة وفي مقدمتها أونروا فهدفها إقامة نظام إبادة أممي ضد الفلسطينيين لحرمانهم من الحماية ومن متطلبات الحياة.
من اللافت بشدة أيضاً تأييد القرار من قبل رئيس قضاة المحكمة جوان إي دونوهيو، وهي قاضية أميركية أقرت الولايات المتحدة بقدرتها ونزاهتها سابقًا نظرًا لعضويتها في مجلس القضاء الأمريكي الأعلى.
وفي الحقيقة، أرى أنَّ هذا أهم وأفضل قرار في تاريخ القضية الفلسطينية، لاستقلاليته وإلزاميته وإجراءاته التطبيقية، إذ أن عدالة المحكمة وقدرات فريق الاتهام لجمهورية جنوب أفريقيا قد انتجوا قرارات جميعها على المعتدي.
وتظهر ردود الفعل الإسرائيلية كم أن القرار بصالحنا، كما اتضح من التصاريح الرسمية المعادية للمحكمة، إذ أنه، وبعد أن اتهمنا أحد وزراء العدو بأننا "وحوش بشرية"، تعليقًا على قرار المحكمة وصفنا رئيس وزراء العدو "بالوحوش" ونزع صفة البشرية عنا. ولنا الفخر بذلك لأن الأسود وحوش ونحن من فصيلتهم.
وقد ادعى العدو أنَّ المحكمة ليست فقط ضد السامية، بل تحديدًا ضد الشعب اليهودي، لأنَّ من جملة الترتيبات إلزام إسرائيل بوقف التحريض على الإبادة، وفي حال عدم التزامها بالقرارات على الأمم المتحدة أن تتدخل على سبيل الأمر وليس للطلب.
أظهرت المحكمة أيضاً رؤية ذكية من خلال الاعتراف بأن نطاق الإبادة يتجاوز الوسائل العسكرية المباشرة، ليشمل نطاقاً أوسع من الأساليب مثل الجوع، والمرض، والعطش، والأوبئة، وغير ذلك من لوازم سبل الحياة، ويؤكد هذا الفهم الدقيق الاعتراف بأن ممارسات الإبادة الصهيونية تمتد إلى ما هو أبعد من الحرب التقليدية.
وكان واضحاً أنَّ العدو قد فقد أعصابه على كل مستوياته، فأخذ يكيل الهجوم على المحكمة بسبب إدراكه خطورة هذه الترتيبات على عدوانيته، ومما يثبت أنَّ ممارساته إبادية، فهو يدرك أنَّ قرارات هذه المحكمة وترتيباتها غير قابلة للاستئناف، كما يدرك أنَّ الترتيبات الابتدائية التي صدرت سيتبعها تحقيقات شاملة وصولًا إلى اثبات جريمة الإبادة الجماعية التي ليس بعدها جريمة أكبر.
وبخصوص القرارات الأولية الصادرة، فهي تتيح لجميع الدول، بل تلزمها، باتخاذ الإجراءات التزامًا بالقرارات، والا اعتبرت شريكاً للعدو من ممارساته، بخلاف عشرات وعشرات القرارات الأممية تجاهلتها، بل احتقرتها إسرائيل بفضل حماية أميركا غير المحدودة لها، في حين أن هذا القرار يوضح جرائم العدو من خلال قرارات مستقلة عادلة ملزمة.
وأرى في هذا الشأن أن إلزامية قرارات هذه المحكمة على جميع الدول دون استثناء ستجبرها على تصحيح مواقفها، لان أي دولة ستدعم إسرائيل في إجراءاتها الإبادية ستصبح شريكًا في التهم ضد العدو، وبالتالي فإنَّ جميع دول العالم أتوقع أنها الآن تحسب خطواتها وتراجع مواقفها وإجراءاتها قبل صدور حكم الإبادة المتوقع كي لا تسري العقوبات عليها، وهذا يعني أنه للمرة الأولى لن تستطيع أميركا حماية إسرائيل من الوقوف في قفص الاتهام.
طبعاً الضحية الأولى لهذه القرارات سيكون مستقبل نتنياهو، فمن نتائج هذه القرارات وصمود المقاومة ستبدأ إسرائيل بالإنهيار من الداخل كقوة استعمار وإبادة جماعية، وهو ما يثبت أن أعداء إسرائيل الحقيقيين هم من داخلها.
ولأن إسرائيل عضو مؤسس للمحكمة من منطلق الحرص على محاربة النازية، فقد أعلن نتنياهو في أعقاب قرارات المحكمة أن على اسرائيل تطوير صناعة الأسلحة محليًا، ذلك لأنه يخشى أن تتوقف الدول عن تزويد إسرائيل بالسلاح خوفًا من عقوبات المحكمة، ورغم تذاكي نتنياهو بالاعتراف بسيادة المحكمة وإلزامية قراراتها، إلا أنه يكابر بتجاهل أن ترتيباتها تفرض حكماً وقف الحرب.
وأقول أيضاً إنه من المتوقع والواجب إلزام العدو بالتعويض عن كل الأضرار التي تسبب بها، بما في ذلك الأرواح الغالية، والجرحى، والبنية التحتية، والعقارات والأمراض بعد صدور الحكم المتوقع.
قرار الدول الغربية بحجب المعونة عن الأونروا في أعقاب قرارات محكمة العدل الدولية يمثل بشكل غير مباشر مشاركة للعدو في الإبادة، فالأونروا والأمم المتحدة هدف حملة من قبل الأعداء بسبب استقلاليتهما وأدائهما لواجبهما التاريخي منع الإبادة.
وأنا، طلال أبوغزاله، أكملت دراستي الجامعية بمنحة الأونروا لتفوقي في الثانوية، ولا يسعني إلا أن أتوجه للأونروا وللأمم المتحدة بكل التحية والتقدير والشكر.
وأختم بالقول إنه يحق لأهل غزة أن يكونوا فخورين بأنهم انتصروا على قوى العدوان العالمية بصدور هذا القرار.
الآن وليس غداً، حان الوقت للتقدم إلى جميع المؤسسات القضائية الدولية طلباً لجميع أنواع التعويضات التي تتيحها القوانين عما أصابنا من أضرار خلال سبعين عاماً وما يصيبنا الآن.
التعليقات