صعب أن يقع الإنسان فريسة لصراعات لم يكن طرفًا فيها، وإنما فُرضت عليه، وكان نتاجها دماراً كاملاً لكافة مناحي الحياة، وهو الأمر الذي ينطبق فعليًا على سكان قطاع غزة، الذي وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها، مُحاصرين بآلات عسكرية، حولت القطاع إلى ساحة حرب دامية، دمرت الأخضر واليابس، ولم ترحم صغيراً ولا كبيراً.
سيظل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، محفورًا في تاريخ الغزيين، فمنذ ذلك التاريخ، يعاني سكان غزة الويلات والدمار للشهر الرابع على التوالي، واستشهد منهم أكثر من 27 ألفاً، بخلاف آلاف الجرحى. ليس ذلك فحسب، بل دُمرت البنية التحتية للقطاع، وتهدمت المنازل والمستشفيات والمدارس على رأس من فيها، على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يرحم ضعيفاً أو امرأة أو طفلاً أو شيخاً، ووجه قذائفه وغاراته بلا شفقة ولا رحمة، بحجة استهداف عناصر حماس.
الدمار الذي وقع في غزة، طال كافة مصادر الغذاء، من أسواق أو مخابز، وتحول القطاع إلى ما يشبه مدينة الأشباح، جراء مشاهد الدمار التي لحقت به، ولم يجد سكان القطاع سوى بعض ما تبقى من المدارس للاحتماء فيها، بينما لجأ البعض الآخر من النازحين إلى المخيمات، ينتظرون دورهم في الشهادة، فالموت في غزة، أصبح مُصاحباً لكل القابعين في القطاع، قد يأتي في أي لحظة، مع كل طلقة رصاص، أو قذيفة مدفع.
ما يحدث في قطاع غزة كارثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، خصوصًا مع تعنت جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي لم يكتف بقتل الأبرياء بالأسلحة، بل يمارس أبشع الجرائم ضد الإنسانية بمنع دخول الإمدادات والمساعدات، سواء أكانت أغذية أو أدوية أو مستلزمات طبية، بعدما نفذت كافة المستلزمات التي يحتاجها الأطباء والمسعفين لعلاج الجرحى، وبعد مفاوضات مكثفة وجهود كبيرة، من جانب مصر وقطر، والعديد من الدول التي ترفض بشدة ما يقوم به جيش الاحتلال من جرائم بحق الفلسطينيين، وتطالب بوقف فوري لإطلاق النار، تتم إدخال بعض الشاحنات التي تحمل مساعدات، بعد إجراء تفتيش مكثف لها.
إقرأ أيضاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي توقع الموت... حقاً؟
جرائم جيش الاحتلال الإسرائيلي لم تتوقف عند هذا الحد، بل تحاول حكومة بنيامين نتنياهو فرض حصار شامل على قطاع غزة، ليس أدل عليه من البيان الإسرائيلي الذي يتهم وكالة الأونروا، الجهة المخصصة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين، بضلوع بعض أفرادها في هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر)، متبوعاً بدعوة لوقف تمويل الوكالة التابعة للأمم المتحدة، وبالفعل اتخذت الولايات المتحدة، وقرابة 12 دولة أخرى قراراً بوقف التمويل المخصص للأونروا، وهو الأمر الذي يزيد من معاناة الفلسطينيين.
وبالرغم من إجراء الأونروا تحقيقات موسعة لجلاء حقيقة مزاعم إسرائيل، وتعهدها باتخاذ إجراء صارمة ومحاسبة موظفيها في حال ثبوت الاتهام، إلا أنَّ أميركا وبعض الدول الغربية تصر على وقف تمويل الوكالة الأممية، وهو الأمر الذي يؤكد وجود نوايا خبيثة لتضييق الخناق على أهل غزة، بحجة وقف أي مصادر تدعم حماس.
إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط
تأسست الأونروا نتيجة النزاع العربي الإسرائيلي عام 1948 لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين، وإيجاد فرص العمل لهم، وبدأت عملها فعلياً عام 1950، ويتم تجديد مهامها بشكل دوري، وتقدم المساعدة والرعاية لحوالى خمسة ملايين لاجئ فلسطيني ينتشرون في الأردن ولبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة. وتحصل الوكالة على الدعم المادي عبر التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتشمل خدماتها التعليم والرعاية الصحية والإغاثة والبنية التحتية، وتحسين المخيمات والدعم المجتمعي والقروض الصغيرة، والاستجابة لحالات الطوارئ في أوقات النزاع المسلح. لذلك، فإنَّ ما فعلته الولايات المتحدة يؤثر سلبًا على الخدمات الحيوية التي تقدمها الوكالة في مجالات الصحة والتعليم والإغاثة، خصوصاً أنها تشكو منذ سنوات من عجز في الموازنة، الأمر الذي اضطرها إلى تقليص بعض خدماتها المقدمة للاجئين في غزة، ومناطق عملياتها الخمس.
وتشير تقديرات الوكالة الأممية ومنظمات حقوقية محلية ودولية، إلى أن مليوني فلسطيني اضطروا إلى النزوح عن منازلهم، إثر تهديدات إسرائيلية، ولجأ غالبيتهم إلى مدارس تابعة للأونروا التي تتحمل العبء الأكبر في تقديم المساعدات الإغاثية لهم ولباقي السكان والنازحين في المنازل والخيام، وقوبل قرار الأونروا بفسخ عقود 12 من موظفيها برفض فلسطيني من جهات رسمية وأهلية، وأكدت السلطة الفلسطينية أن الوكالة بحاجة إلى الدعم وليس إلى وقف المساعدات، واتهمت إسرائيل بشن حملة تحريض لتصفية الوكالة. ولا تربط إسرائيل بالأونروا علاقة جيدة، وسعت على مدار سنوات طويلة إلى تصفية وجودها بعرقلة عملها والتحريض ضدها.
إقرأ أيضاً: "الممر الشمالي" الروسي: متنفس "الحزام الطريق"؟
في عام 2018، دعا نتنياهو إلى وضع اللاجئين الفلسطينيين تحت رعاية مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة وإنهاء وجود الأونروا؛ إذ اعتبر أنَّها تعمل لصالح الفلسطينيين وتخلّد قضية اللاجئين. وخلال الحرب الحالية، أثارت الأونروا غضب تل أبيب بسبب بيانات لها وتصريحات لمسؤولين فيها تتهم الاحتلال بقصف أهداف مدنية بما فيها مدارسها ومراكز الإسعاف الخاصة بها. وفي تصريح استفزازي يؤكد نوايا إسرائيل الخبيثة تجاه الأونروا، قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس إن بلاده ستسعى إلى منع الأونروا من العمل في غزة بعد الحرب.
وتشارك أميركا وحفاؤها بعد قرار وقف تمويل الوكالة الأممية في جريمة العقاب الجماعي، وحرب التجويع، وهو الأمر الذي يضع الولايات المتحدة في خانة الانحياز والدعم الأعمى لمخططات الاحتلال السرية والمعلنة لإنهاء دور الأونروا وعملها، ويمس هذا القرار بقدرة الأونروا على القيام بدورها في إغاثة سكان غزة الذين يعيشون في خضم أهوال الجوع والعطش والأمراض ومحدودية المساعدات، ويعتمدون بدرجة أساسية على مساعداتها في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل وحرب الإبادة الجماعية.
إقرأ أيضاً: بوتين في السعودية والإمارات... العالم يتبدّل
إنَّ قرار وقف المساعدات عن الأونروا ما هو إلا وسيلة يضغط بها الاحتلال الإسرائيلي، والحليف الرئيسي والراعي الرسمي لجرائمه الولايات المتحدة، على حماس، من دون النظر إلى حجم المسألة والمعاناة التي يتجرعها ما تبقى من سكان قطاع غزة، فأميركا تضرب بعرض الحائط كافة المواثيق والأعراف الدولية بصمتها أمام الانتهاكات التي يتعرض لها أهل القطاع، وتستخدم نفوذها لوقف عمل الأونروا، وهو الأمر الذي يتطلب تدخلاً عاجلاً وفورياً من جانب كافة الأطراف للتصدي لما تخطط له إسرائيل، فلا بد من توفير الدعم الكامل للأونروا، للقيام بدورها الإنساني في غزة.
التعليقات