عندما أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن أهدافها في بداية شن هجومها البري والبحري والجوي على قطاع غزة، كان في المقدمة منها القضاء على حركة حماس، لكن واقع مسار حرب الإبادة ضد قطاع غزة أكد ويؤكد على عجزها عن تحقيقه وسواه من الأهداف الأخرى.

لقد ثبت أنَّ سياسة إسرائيل العسكرية على مستوى التعبئة وعلى مستوى التخطيط الأركاني للحرب وإدارة العمليات عقيمة ومرتبكة وفاشلة، وهذا ما يؤكد عليه أسلوب النار والحركة للجيش الإسرائيلي عند توغله داخل المدن الفلسطينية، حيث يتكبد خسائر كبيرة ولا يحقق إنجازات عسكرية توازي الخسائر، ومن ذلك منجزهم في تحرير الأسيرين، وقد تحقق بعد خسائر أكيدة في صفوف منتسبيه وفي معداته العسكرية.

هذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الجيش الإسرائيلي لا يجيد حرب المدن مثلما يجيدها ويتقنها مقاتلو حماس. فقتال المدن ينقسم إلى قسمين:

أولاً: قتال البنايات، ويستغل الجيش البناية لزرع القناصين لقنص أفراد العدو، وأفضل مكان للقنص في البناية ذات الطوابق هو الطابقين الأول والثاني، لأنهما يشكلان أكثر الأماكن أماناً للقناص، يعطيه فرصة كبيرة في البقاء على قيد الحياة، خصوصاً عند تدمير البناية من قبل العدو بسبب ارتفاعهما المنخفض عن الأرض، وفي الوقت ذاته يولد صعوبة أمام العدو في توجيه ناره نحو القناص، ويعطي هذا الأخير ميزة التصويب على العدو بدقة لأنه مشرف عليه من فوق.

ثانياً: قتال الشوارع، وبدوره ينقسم إلى ضربين هما قتال المشاة الآلي والذي ينفذه الجيش المهاجم لأحتلال أرض العدو، ومن ثم تسليمها للمشاة الراجل والتقدم إلى أمام، وقتال المشاة الراجل، وأكثر ما تحتاجه الجيوش أثناء الهجوم تخطي مقاومة القناصين وكمائن العدو الأخرى والتقدم نحو الأرض التي حررها المشاة الآلي ومسكها والبقاء فيها.

يلاحظ من خلال الفيديوهات التي تنشرها حماس، وأيضاً تلك التي ينشرها الجيش الإسرائيلي، أن مقاتلي القسام لديهم خبرة في هذا الضرب من القتال أفضل بكثير من خبرة الجيش الإسرائيلي، لذلك تمكنوا من إيقاعه في كمائن أعدوها له مسبقاً، وأوقعوا في صفوفه خسائر كبيرة في المعدات والأفراد.

إقرأ أيضاً: كيف أحبط الإعلام الرقمي البروباغاندا الغربية

أما من ناحية سياسة إسرائيل الإدارية في تحريك عجلة شؤون البلاد وتشغيلها بالاتجاه الإداري السليم، فمن الممكن تقييمها على أنها سياسة تخبط وفشل وعجز حتى على مستوى إعلامها الرسمي، فالسلطة الرابعة الرسمية والأهلية ذات أثر كبير في استقطاب الرأي العام لصالح الحكومة وحشد الجمهور لتأييدها. ومن الأدلة القوية على ذلك التخبط هو الصخب والضجيج الاحتفالي الذي يشبه إلى حد ما قول الناس تمخض الجبل فولد فأرة، أي عبر تحرير أسيرين فقط، ويدل الاحتفال المريض بهذا الحدث على الفشل الكبير الذي تدور في فلكه الحكومة الإسرائيلية، التي تحاول عبر إنجاز تحرير الأسيرين أن تقول للجماهير الإسرائيلية إنها حققت هدفاً مهماً من الأهداف التي يبغيها الشعب الاسرائيلي من حرب غزة، وهي تحرير الرهائن لدى حماس بانتظار تحرير آخرين، وهو قد لا يحصل لأن المقاومة قامت بتوزيع الرهائن في أماكن متفرقة من الصعب الوصول إليها لبعد المسافات بينها ولأساليب الغش والخداع الحربي التي تستخدما فصائل القسام للتمويه على الجيش الإسرائيلي من جهة الوصول إلى الرهائن، ومن جهة أخرى صنع كمائن للإيقاع به وتكبيده خسائر.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

هذا الحادث تسبب بخسارة كبيرة لسمعة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، علاوة على عجز جهاز الموساد (الاستخبارات) وجهاز الشاباك (الأمن القومي) عن الحصول على معلومات قيِّمة بخصوص المحتجزين، ويتمظهر هذا العجز في مرور خمسة أشهر على الحرب والأجهزة الاستخباراتية والأمنية تبحث في كل مكان في غزة وتمسح أراضيها طولاً وعرضاً ولم تتمكن من تحرير سوى أسيرين اثنين، بالرغم من أن أرض قطاع غزة ضيقة المساحة، ومكشوفة. وفي حين أن واقع الحال في القطاع المشار إليه هو في حقيقة معطياته يشتغل لصالح إسرائيل، لكن القدرة العجيبة لمقاتلي حماس في إخفاء الرهائن حولته ووظفته ليعمل لصالح المقاومة، وإنه لمن المخزي لدولة ذات جيش قوي واستخبارات دقيقة بأجهزة إلكترونية متطورة، ابتكرت نظام (بيغاسوس) الذي تمكنت من خلاله أن تتجسس على أفراد وحكومات تبعد عنها آلاف الكيلومترات، أن تعجز عن الكشف عن أماكن رهائن من مسافة صفر. فهؤلاء بين يديها وفي الأنفاق تحتها وعن يمينها وعن يسارها، وفي مساحة سكنية صغيرة دمرت أبنيتها وهجَّرت أهلها، لذلك فهي مكشوفة أمامها على مدى البصر، ومن السهل عليها وبكل يسر عبر الإمكانيات البصرية والعضوية أن تهتدي إلى أماكن الرهائن؛ فيا لخيبتها وانهيار قوتها، وإنه لأمر مضحك أن لا تتمكن بعد دخول الحرب شهرها السادس من أن تحرِّر سوى أسيرين.

إقرأ أيضاً: حرب السيوف الحديدية واليوم الذي سيلي

إنَّ الإحتفال بتحرير الرهينتين هو عمل دعائي فاشل ومفضوح، يمثل محاولة دعائية هزيلة للتغطية على إخفاقات وخسائر الجيش الإسرائيلي، الذي عجز عن تحقيق أهدافه في غزة، ولا سيما القضاء على القدرات العسكرية لـ”حماس” واستعادة أسراه من القطاع. والأخبار من داخل إسرائيل تقول إنَّ هذه العملية المخلقة عبر تداعيات عقل مريض أثارت الجدل في الأوساط الإسرائيلية، لا سيما بعدما حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو توظيفها لصالحه، باعتبار أنَّ الضغط العسكري هو السبيل لتحقيق مجمل الأهداف، والتي دلت على فشل مخطط نتنياهو في المراهنة على مواصلة القتال للوصول إلى أهداف هذا الشعار العقيم أو هذا الرهان الخاسر.

إقرأ أيضاً: الحرب تمتد إلى لبنان واليمن.. و"الفتن" تأتي من الشرق!

لم يفكر نتنياهو بالفترة الزمنية من الحرب، وهي خمسة أشهر التي استغرقها جيشه ليحرر رهينتين فقط. وبحسابات بسيطة، فإنه على هذا المنوال يحتاج إلى ما يقرب من مئة عام ليحرر جميع الرهائن لدى حماس، لذلك فإنه لمن المضحك ومن بواعث السخرية الاحتفال بهذا الفعل الصغير والهزيل، ومن الخير لرئيس الوزراء الإسرائيلي أن يقبل بشروط حماس للوصول إلى هدنة وإيقاف إطلاق النار وتبادل الأسرى.