كان جزع إيران على قطع نظام المشير عمر حسن أحمد البشير صلاته بها، قصيراً محدود الأمد، لأنَّ حاجتها إلى السودان قليلة ضئيلة، لأجل ذلك لم تضع وقتها في اللوم والعتب، وأدارت رأسها عنه، وتركت الدكتاتور مرتهناً بالوعود التي بسطها له حليفه الجديد، والتي لم يتحقق منها غير أطياف، ثم مضى البشير، الحاكم الذي منحته الأقدار من الوقت ما يتيح له أن يعدل، وأن يوفق لعهد زاهر، هو ورهطه، ولكنهم أصابوا بعض النجاح، وأخفقوا أفدح الإخفاق وأثقله.

ثم شهد السودان تطورات مختلفة، أجملنا الحديث عنها في مقالنا السابق "إيران والسودان وتوطيد الصلات"، ونستطيع أن نزعم إذا أردنا تلخيص طابع الأحداث في ذلك العهد في إيجاز شديد، أنَّ الساسة قد فشلوا الفشل كله، حينما لجأوا إلى الغرب يستمدون منه الرأي والفكرة، وأدرك الشعب الذي جدّ في تنظيم مظاهراته المنددة بخطايا شركاء الحكم، وما كان يجري بينهم من خلاف، أنَّ ساسته وما هم فيه من نزاع باطل كله، فانصرف عنهم، واستعان بالكد والاجتهاد، ليجابه ما ابتلي به من شقاء في حياته، وظلت شريحة الشباب على ما كانت عليه، تختلف إلى الشوارع والميادين، في مسيرات هادرة، تقام يومين من كل أسبوع، ولا تمضي ساعات إلا وتفضها القوات المعنية بفضها، في لغة تتقنها كل الاتقان، وحتى لا نسرف في تحليل الخطوب التي تكاثفت في تلك الفترة، ونترك هذه الأحاديث الطوال الثقال، كما يقول الدكتور طه حسين، نقول إنَّ غمرتها انجلت بحرب ضروس بين القوات المسلحة، وبين قوات الدعم السريع، وفي الحق أنَّ وقائع الحرب، أبعد من أن تحد، وأوسع أن تحصر، وحتى نترك عنا هذا الإسهاب، لنا أن نزعم أنَّ قوات الدعم السريع هي من ابتدرت هذه الحرب، وأنها حقاً طمعت في غير مطمع، وسعت لنيل ما لا سبيل إليه.

وانبرت الحكومة الشاحبة التي لا نكاد نتبين معالمها، في ظل هذه الحرب التي ما زالت مستعرة، تدير حوار الهدنة، ووقف الحرب، في عدة منابر، وهي موقنة أن من العسير أن تحقق لتلك الدول الراعية لتلك المنابر، فلسفتها التي تريد أن تنتهي إليها، فتلك المنابر، تريد أن تعيد قوات الدعم السريع إلى حياتنا الواقعة في هدوء ورفق، وألا نعرض عن مليشيا النهب والاغتصاب إعراضاً شديداً أو هيناً، وأن يعود الدعم السريع في صوره وأشكاله الغليظة، مستأثراً بكل خير، ومستحوذاً على كل نصيب، ونسيت هذه المنابر أن كل آهة طويلة، وصرخة متصلة، صدرت من موجوع أو مفجوع، سببها تلك الميليشيا التي تقمصت نهج التتار.

الفريق أول عبد الفتاح البرهان، القائد الذي نعجب بذكائه، ونكبر عقله، وفلسفته في الحرب، بعد خروجه من جحيم الخرطوم، واستقراره في مدينة الثغر، ذلك الثغر الذي تحبه بعض الجهات وتتهافت عليه، وتتدله في لذات هذا الحب العنيف الحار، لدرجة تدفعها لأن تحيل خصب السودان وغناه لجدب قاحل، انتظم رئيسه في زيارات متصلة، تخالف العرف المعروف، فقائد الجيش يعود نفسه الحرمان، ويمكث مع قواته حتى ينجلي غبار المعركة، ولكن نستطيع أن نذهب، إلى أن الغاية الملجئة التي دفعت البرهان لكي يقوم بكل تلك الرحلات، هي أن تحتفظ قواته بحظها من الانتصار، والبرهان قائد الجيش الذي اشتد عليه سخط الناس، لخططه التي لم تلجم الميليشيا التي استفحل خطرها، وعظم أمرها، اتضح الآن نجاعة تلك الخطط، التي حظ الصواب فيها أكثر من حظ الخطأ، لقد توقع الفريق أول البرهان، أن تفضي هذه الزيارات لدول الجوار لما ينفع ويفيد، تلك الدول التي تسأثر بقلب شعبه ولبه، قد يتاح لنا الوقت للتفكير في ماهية الأسباب التي أجبرتها أن تملأ قلب البرهان حزناً وحسرة، وحتى لا نقول كلاماً مبهماً لا يفهمه الناس، نزعم في عنف وحدة، أن تلك الدول لم تنظر إلى البرهان، أو تسمع منه، كما نظرت إليه الجزائر نظرة تضج بالاشفاق، وسمعت منه في حرص واحتياط، هناك في بلد المليون شهيد، تحدث الرئيس البرهان بصوت مرتفع، ولم يكن خاطره كليلاً، أو فؤاده دامياً، لأن لا الرئيس تبون ولا دولته تؤثر العافية عن إغاثة الملهوف، ولا تضن بنفسها عن نصرته، مخافة مشهد وجهد، أوضيق وضنك، قد يلحقها نظير نجدتها تلك.

إقرأ أيضاً: التطرف الاجتماعي في السودان

إذن الجزائر من الدول التي أظهرت وجهاً ناصعاً للسودان، وسرت فيها تلك الرغبة الصادقة في دعمه، وليست الجزائر وحدها من أقدمت على اتخاذ تلك الخطوة، فهناك دولة إيران التي لم تمتنع عن السودان، وتسرف في الامتناع، بحجة الخذلان الذي تورط فيه نظام البشير من قبل، إيران الدولة التي تحيفتها المكاره، وكثرت عليها الأحداث والخطوب، واضطرتها إلى هذا الخصام والجهاد، مع محيطها ومع دول الصلف والغرور، نلتقي ونختلف من أنها تبتغي أي جائحة، أو كارثة، "لقطر سني" حتى تتوطد العلاقات بينها وبين ذلك البلد الذي أزرت به المصائب والمحن، فخلافنا العقدي معها، وسيرتها التي ليست كلها صافية نقية، مع دول وشعوب المنطقة، تجعلنا لا ننخرط معها في مودة خالصة، ولكن الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد، أن الدولة الفارسية أسرع إلى التعاون، وأقرب إلى الفهم، لإدراك طبيعة المخاطر الهائلة التي تحدق بالسودان، ولأنها أيضاً لا تطرأ عليها علامات التردد والتلكؤ، وتشعرنا بأنها تريد أن ترى وتسمع وتفكر، كلا إيران، حرة الإرادة تنظم علاقاتها وتتطورها، دون أن تنظر لأحد، أو تنتظر رضا أحد، نعم هي ترقب الحوادث، وتهتبل الفرص، لتتصل أفراداها وجماعاتها وكياناتها الدينية والسياسية، مع بيئات وأمزجة الدول المهيضة، ولكنها على كل حال، دولة يمكن أن نعتمد عليها، وأن نعقد عليها أوسع الآمال في ظرفنا الراهن، بعد أن تجافى الأشقاء عن نصرتنا، بل هناك من الأشقاء من لم يرع للسودان حرمة، وسعى إلى الغاية التي لا تدرك، وهي تفتيت شمل السودان ونهب خيراته.

إقرأ أيضاً: العلل التي أزرت بمجتمعنا التقليدي

وإيران التي تغيرت صورتها، فلم تعد هي الصورة المعروفة على صاحبتها، تلك الدولة التي تريد أن تخضع الجميع للاستسلام والاذعان لارادتها، استطاعت في جهد عنيف أن تقرب منطقها من فهم الناس له، وأن تنسجم في هذه المعاهدات التي تمس العقل، ولا تمس الشعور، وأن تنخرط في مباحثات كفلت لها تجاوز الخلافات مع أعتى خصومها، فاتفاق بكين، طوى خلافها الطويل العنيف مع الدولة الكبرى في المنطقة، ولكن مثل هذه الاتفاقيات في الحق، لا تحقق لايران هدفها الذي تبحث عنه، بغيتها الأزلية التي تتمثل في اغراق المنطقة بفلسفتها الساذجة إلى حد بعيد، فنحن مهما اتسعت أطماعنا، وتعددت مطالبنا التي نتظر تحقيقها من الدولة الفارسية، فلن نرضى أن نوفيها حاجتها، ونحقق لها أملها النديان، فدولة ايران التي تستقبل الآن الزائرين والزائرات من طاقم الخارجية السودانية، تعي تماما أن هذا الشعب الذي عرفته واختبرته من قبل، لن يخضع لحجتها، أو يذعن لجلالها، فحرياً بها، أن تكتفي بالورق المالي الصفيق - هذا إذا كان السودان ما زال يملكه - نظير عتادها العسكري الذي سوف تقدمه لقواته المسلحة، وأن تعلم أن السودان ينتظر منها أكثر من تلك المسيرات التي جلبها منها، والتي أسهمت كثيراً في تغيير دفة حربه مع الميليشيا، السودان ينتظر من دولة إيران أن تسبغ على علاقتها به لوناً من الجد، حتى لا تتعثر تلك العلاقة مرة أخرى، وأن تسالم وتصانع بعض الشيء، حتى تزول بينها وبين شعبه الكلفة، فالسودانيون يستطعيون أن يبصروا، بالرغم من أعينهم المتورمة من فرط الألم، فهم ينظرون إليها بعين الحاجة، لا بعين الحب، وبشهوة البقاء، لا بشهوة الهيام، ولها أن تفكر في الاعراض عنه، إذا أرادت ذلك، وللسودان أن يطيل النظر والتمعن والتفكير، في خيارات أخرى خلافها، بالرغم من ضعفه وهزاله الحالي، لن نكتفي بالشكوى أيها السادة، نسعل سعالنا المتكرر هذا، ولكن لن نموت، لن نستخذي أحد، وقريباً جداً سنظفر بكل ما نحتاج إليه، وسنشهد جنازة كل من سعى لقتلنا وترويعنا، ونشيعها إلى القبر.

إقرأ أيضاً: القابلة "حواء سبت".. صيغة المجتمع السوداني في نسختها القديمة

على السودان، بعد أن تضع الحرب أوزارها، أن يعكف على إغلاق حدوده ويحكم إغلاقها، بعد أن فطن لأن "جيرته" قد أخذت من فلسفة "الآثرة" إلى أقصى حد ممكن، وأغرقته في انتهازية مروعة، وتغاضت عن العاطفة وعن الشعور، وأن يتحفظ تحفظاً عظيماً تجاه الكثير من عاداته وتقاليده، وأن يترك عنه هذه الطيبة وهذه السذاجة، فهذه الخصال هي التي أحالته لهذا الوضع الضئيل، فهذه الحرب التي جشمته الأهوال، من الحق عليه ولنفسه أن يفكر في حدوده وسواحله، وأن يخلق لها هذا الاتصال الوطيد مع الدول التي انغمست في نصرته، وأن يعمل على استقلال نظامه السياسي، فيطهره من كل شوائب الضعف والتبعية والاذعان. على السودان أن يوحد صفوفه، ويقوي جيشه، ليستعيد مجده وألقه ونضاره، وليحرر كل ذرة من تراب، شمخ فيها الشقيق بأنفه، على شعبنا أن يترك عنه هذا الخمود والخمول، وأن يتحرر من ربقة الفساد والاضطراب، وأن يعلم أن بلوغ الغاية التي يبتغيها ليس من السهولة واليسر، فهي تتطلب دأباً وجهاداً وإلحاحاً عنيفاً، إنسان السودان لن يعيش آمناً مطمئناً، إلا إذا توثقت صلاته برحاب الدين، وهز بندقيته في الهواء ملوحاً ومحذراً، في كل وقت وحين، حتى يرعوي الطامع، ويخنع الصفيق، علينا أن نبذل كل مشقة، ونحتمل كل عناء، حتى تنفرج الشفاه، وتنبسط الابتسامة، وتتهلل الأسارير، ولن يحدث هذا إلا إذا ابتعدنا عن محور الدول التي تتشدق بديمقراطية زائفة، وأظهرنا الود لبعض الدول الاشتراكية، ووثقنا صلاتنا مع قطر وتركيا وايران، فقد بان أصلهم في ظل هذه الهيجاء كأجمل وأبهى ما يمكن أن يكون.