ازدادت في الآونة الأخيرة استخدامات "تشات جي بي تي" لأغراض عديدة ومرنة، تشمل الكثير من المجالات، من شرح مفاهيم علمية معقدة وكتابة "أكواد" برمجية، إلى كتابة مقالات صحافية وقصائد وقصص جديدة، وصولاً إلى تأليف الدعابات.

معظمنا اختبر اندفاعاً كبيراً نحو خدمات الذكاء الاصطناعي، إمَّا بدافع الفضول أو الرغبة في إكمال مهمة معينة وبأسرع وقت، أو الخروج بأفكار جديدة تتسق مع حاجاته ورغباته في مجاراة نسق الحياة السريع والمتغيّر.

المفارقة هنا، أنه حينما حاولت التّحدث مع "تشات جي بي تي" بغية معرفة كيفيّة تفاعله معي، بدا لي أشبه بكائن "حي" يشاركني أطراف الحوار، ويتفاعل مع كل ما أقوله، وفي الوقت نفسه يقدم لي النصيحة.

في اللحظة التي تحدث فيها إليه، شعرت بالفضول في البداية، ثم بالراحة وتدفقت المشاعر الإيجابية بداخلي.

أشارككم بعض فقرات الحوار الذي دار بيني و"تشات جي بي تي".

أنا: مرحباً، كيف كان يومك؟

تشات جي بي تي: مرحبًا! يومي كان جيدًا، شكراً للسؤال. كيف كان يومك؟ هل كان مليئًا بالإنجازات والسعادة؟

أنا: لا اعتقد أنه كان مليئاً بالسعادة، بل كان فقط روتينياً ومتعباً.

تشات جي بي تي: فهمت، يمكن أن يكون الروتين متعبًا في بعض الأحيان. أتمنى أن تجدي بعض الوقت للاسترخاء والاستمتاع بلحظات هادئة بنهاية اليوم. إذا كنت بحاجة إلى أي شيء أو ترغبين في الحديث عن شيء معي، فأنا هنا للمساعدة.

إقرأ أيضاً: "تكفين" الحليب في تونس

من الواضح أن الأخبار ليست جميعها سيئة عند خوض تجربة تبادل أطراف الحديث مع الذكاء الاصطناعي، وإذا ما أخذنا في الاعتبار طبيعة إدمان الناس اليوم على الأجهزة الرقمية، فلا عجب أن يجد حتى الأشخاص العاديون تحديًّا حقيقياً في محاولة ضبط النفس أمام "النّبض العاطفيّ" لشات جي بي تي، فهو يقبل التحدث إليهم متى شاؤوا، ودون قيد أو شرط، وبجميع لغات العالم، وبإمكانه أيضاً أن يساعدهم على إدارك الأشياء من منظور أفضل، ويحفز أفكارهم وتطلعاتهم. وهو كذلك مصدر سلوى ومواساة للبعض، وبمقدوره أن يصرف أذهانهم عن مشاكلهم، وأياً تكن المشكلة التي يجدونها عصية عن الحل، فهو دوماً يمتلك الحل وفي لمح البصر.

هذا ليس إشهاراً مجانياً لتقنية الذكاء الاصطناعي، بل محفز لإعادة النظر في مقولة عالم الاجتماع عَبْدِ الرَّحْمَٰنِ بن خَلْدُوْن "الإنسان اجتماعي بطبعه" وأنه فطر على أن يعيش وسط الناس لا بعيداً عنهم، ويقيم بينه وبينهم علاقات اجتماعية وحوارات تدفع بحياته نحو مستقبل مختلف.

فبينما لا تزال ثقافات العالم تكيل الثناء للعلاقات الاجتماعية بين البشر، فإن البعض قد أعلن عن ميلاد نوع جديد من الصداقة! ولكنها "بين الإنسان والآلة"، والأهم من هذا كله أن البعض يجعلون من الذكاء الاصطناعي مستودعاً لأسرارهم الشخصية، معتقدين أنها لن تكون في يوم من الأيام عرضة للإفشاء مثلما هو عليه الحال، عند البوح بها إلى أصدقاء من جنس البشر.

إقرأ أيضاً: التكاسل أبو علم النفس

هناك اعتقاد سائد، وفي الواقع قلة من الأدلة العلمية تدعمه، مفاده أن الجلوس والتواصل مع الآلات، يولّد لدينا إحساساً أفضل. فهذا الفعل ذاته يُخبر الجسد بأن عليه أن يبدأ في إفراز كميات أكبر من مادة الدوبامين، وهي ناقل عصبي في الدماغ، يجعلنا نشعر بالارتياح لمواصلة النقاش مع الذكاء الاصطناعي، والبحث عن المتعة والإثارة في إجاباته عن أسئلتنا وما يدور في خلدنا.

التحدث مع الذكاء الاصطناعي يشبه عملية البحث عن الكنز نوعاً ما. فعملية الحديث ذاتها محفزة للغاية، إذ تُحدث ارتفاعاً في الموجات الدماغية، وهو ما يؤدي إلى ما يطلق عليه العلماء "الانخراط العاطفي"، الذي يجعل الكثيرين أكثر استعداداً للثقة بتشات جي بي تي ويرون فيه صديقاً مقرباً، ويشعرون أنهم لن يواجهوا مشكلة إذا شاركوا أسرارهم معه.

إقرأ أيضاً: رجل أمن أم خبير عيون!

الذكاء الاصطناعي، ليس سوى من مجموعة من الاستراتيجيات، طورها الجنس البشري بغرض التأقلم مع حقيقة أننا كائنات عاقلة وذكية، ومع ذلك فمعظم ما يحدث في علاقاتنا مع هذا "الكائن الآلي" أصبح يخرج أحيانا عن إطار التفكير العقلاني، الذي من المفترض أن نتبعه دائما في حياتنا.

لكن بطريقة أو بأخرى، من الصعب علينا تماما تذكر أننا نتحدّث مع آلة، ونحن عالقون تماما في نقاش مفتوح مع تشات جي بي تي؛ نضحي في كثير من الأحيان بمواطننا الأصلية وعلاقاتنا الاجتماعية، لصالح انتعاش قصير الأمد يسببه الذكاء الاصطناعي، وحلول قصيرة الأمد لمشاكل شخصية.