تأسفت صديقتي معبرة عن الاستياء، لأن الشركة التي تعمل فيها بتونس اتخذت قرارا “عشوائيا” بتسريح عدد من الموظفين، بعد أن أمضوا أكثر من سنتين ونصف السنة من العمل الجاد في وظائف منخفضة الأجر، ولا يعزى هذا القرار إلى تقصير منهم أو إلى ضائقة مالية للمؤسسة، بل إلى سياسة الشركة، التي لا ترغب في أن تصبح لديهم حقوق قانونية يطالبون بها في المستقبل.

ما يثلج صدر صديقتي أن مديرتها المباشرة اعترفت صراحة بأنها لم تكن من العمال المتقاعسين، بل كانت جادة ومتميزة في عملها الذي كان يأخذ كل وقتها، ويسرق منها حتى أيام راحتها، وشيء مثل هذا لا تعترف به إدارات الموارد البشرية، التي تجري على الأغلب وعلى مستوى العالم بأسره عملية حسابية متسرعة، ولا يقيّم الموظفون بشيء سوى بأصفار الراتب بالطبع.

“فكرة اللاشيء” هي فكرة راسخة في عدد كبير من بيئات العمل، كما لو أن العامل ما هو إلا ثقب مستدير في حائط المؤسسة، وهذا الفراغ يمكنهم ملؤه بسهولة، لكن يغيب عن ذهنهم أن قيمة بعض الموظفين وكفاءتهم لا يسهل التعامل معهما رياضيا ولا ترميميا على الأرجح.

الموقف الذي تعرضت له صديقتي جعلني أستحضر صورة رأيتها على فيسبوك لخمس كرات تنس مقطوعة إلى نصفين احتوتها زجاجة موجودة على اليمين، في المقابل احتوت الزجاجة الموجودة على الجانب الأيسر ثلاث كرات تنس فقط سليمة.

هناك قاسم مشترك بين ما توحي به الصورة وبين ما يحدث داخل بعض مؤسسات العمل، حينما تتخلى هذه المؤسسات عن موظف لديه مهارات استثنائية على افتراض أن براتبه يمكن توظيف شخصين أو ثلاثة أو حتى ستة أشخاص. وعند اتخاذ هذا القرار ينتهي الحال بتلك المؤسسة إلى تكوين فريق متواضع الإمكانيات، قد يقوم بعدد أكبر من المهام، ولكن الناتج لا يكون بالجودة والكفاءة المطلوبتيْن.

في بيئات العمل الحديثة يمكن أن يؤدي قرار الإيقاف المفاجئ عن العمل إلى إصابة العاملين بخيبة أمل أو حتى الاكتئاب، وتكون مشاعر الإحباط المتعلقة بترك العمل أمرا متوقعا لدى معظم العاملين، لاسيما إذا لم يرافقها تفكير مسبق في حلول بديلة.

وفي أوقات صعبة كهذه يصعب التركيز على الإيجابيات الأخرى، لكن صديقتي تقول إن توقفها عن العمل ساعدها على إعادة تقييم أولوياتها في الحياة، والأهم من هذا كله أنها أصبحت تنعم بـ”متعة الكسل”، بدلا من أن تحافظ على زخم الاستيقاظ في الرابعة فجرا من أجل الالتحاق بعملها الشاق.

من الصعب ألا تصيبني الدهشة من موقف صديقتي، لكني أدركت أن في نفسها شيئا مشابها لما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه “التكاسل أبو علم النفس”، وليس هذا غريبا على أي حال، فالكسل جزء من طبيعة البشر، وهنا بوسعي أن أعتبر صديقتي نسخة تونسية من اتجاهات الكسالى التي تعتبر الكسل شعورا حقيقيا وأصيلا بمتعة لا يمكن أن يمنحها العمل، ومثل هذا الأمر يمثل أسلوب الحياة الحديث لملايين العمال في الصين والولايات المتحدة وأوروبا، يفضلون الاستقالة ويعرضون عن الوظائف التي يعتبرونها غير مجدية أو غير مجزية، وهذه الظاهرة أطلق عليها خبراء الاقتصاد مصطلح “استقالة كبيرة”، وهدفها خلق بيئات عمل عادلة.

العرب اللندنية