أن تطبع الأسماء في القلب ولا تنادي بأصحابها، وتحفظ تفاصيل الملامح مهما مر عليها ولا تلمسها، وأن تقرأ السلام وأنت على يقين تام بأن صوتك لن يمر بأسماعهم! لكنك بالرغم من ذلك تحتفظ بذلك الجزء منك الذي انصهر بهم ذات يوم مع جميع الرسائل التي كتبتها واحتفظت بها بجانب الصورة الأولى لهم، تلك التي تعثرت بها ثم نهضت دون أن تنتبه أنك فقدت قلبك إلى الأبد، والآن تركن كل ذلك في أحد أدراج الذاكرة، كي يقال بأنك تحيا كناج وليس كجريح!

تمضي في الحياة قدماً بأقدام خشبية وذاكرة ممزقة، وصدر مفتوح بجرح عميق لا ينتبه أحد إلى عمقه، رسم أسود قاتم لكنه ربما يكون واقع أحد ما، حقيقة لا يمكن أن تتجزأ للبعض أو ربما هي طرف جزء صغير من واقع أحدهم، لا يهم، فالصورة تتجدد والأحداث تتغير، وعجلة الحياة في حالة دوران سريع، مما يجعل البعض مضطر لمجاراة الأيام بأقدام خشبية لم تتعرف على ملمس الحشائش الخضراء، ولم تتعلق حبات الرمل بأطرافها، ولم تشعر ببرودة مياه البحر على الشطآن وهي تجري نحوها؛ هي فقط تحاول أن تجاري عقارب الساعة في حركتها، باحث صاحبها عن شكل النهايات، لا المعنى المخبأ في الطريق، عن خط الوصول لا اكتشاف التعرجات، عن قطع المسافات لا وصل القلوب؛ في مثل هذا الحركة ليست دليل على الحياة، بل هي استعجال الخلاص للوصول إلى فصل الختام!

إنَّ الهروب أحد أوجه الغربة، الهروب سفر بلا وجهة ووصول بلا غاية، الهارب مثقل بقدر ما يحمل في صندوق ذكرياته، تلك التي أبى التنازل عنها وعجز أن يأتي بما هو أصدق منها.

ربما يكون في الاحتفاظ بالذكريات شيء من الوفاء لتلك اللحظات من صانعها، لكن ذلك يثقل صاحبه، أمام الوفاء لا تنسى أنك أكبر من تلك الأدراج، وأكثر دهشة مما حوت الرسائل، وأنك تستحق الحياة أكثر من تلك الأمنيات التي صغتها معه وله.