حسمت المحكمة الاتحادية العليا العراقية بجلستها المنعقدة في الحادي والعشرين من شهر شباط (فبراير) الماضي قضية رواتب مواطني إقليم كردستان، بإلزام رئيس مجلس الوزراء الاتحادي ورئيس مجلس وزراء الإقليم "بتوطين رواتب منتسبي جميع الوزارات والمحافظات والجهات غير المرتبطة بوزارة وجميع منتسبي الجهات الحكومية الأخرى والمتقاعدين ومستفيدي شبكة الحماية الاجتماعية لدى المصارف الحكومية الاتحادية العاملة خارج الإقليم، وتخصم من حصة الإقليم المحددة بموجب قانون الموازنة لهذه السنة، وللسنوات القادمة ولكل من الجهات المذكورة آنفاً في الإقليم والدوائر الفرعية التابعة لها التنسيق المباشر مع وزارة المالية الاتحادية لتنفيذ ذلك ومفاتحتها بشأن التوطين دون الرجوع إلى ممثلية إقليم كردستان، وعلى جميع المصارف التابعة للحكومة الاتحادية تسهيل عملية التوطين واتباع جميع السبل اللازمة لإمكانية حصول المستفيد (موظف أو مكلف بخدمة عامة أو متقاعد أو مستفيد شبكة الحماية الاجتماعية) على راتبه في محل إقامته من خلال المنافذ المنتشرة في الإقليم أو المصارف المفتوحة في الإقليم المرخصة من قبل البنك المركزي العراقي".

ليس هذا فحسب، بل إنَّ المحكمة أصدرت حزمة قرارات بشأن الانتخابات في الإقليم، منها إلغاء المقاعد المخصصة للأقليات (الكوتا) البالغة أحد عشر مقعداً، وبالتالي جعل عدد مقاعد برلمان الإقليم مئة مقعد وليس مئة وأحد عشر مقعداً، وإيكال مهمة إجراء انتخابات الإقليم إلى المفوضية العليا الاتحادية وليس الهيئة العليا لانتخابات برلمان كردستان، وكذلك تقسيم إقليم كردستان إلى أربع دوائر انتخابية أو أكثر بعدما كان بمحافظاته الثلاث دائرة انتخابية واحدة.

هذه القرارات جاءت على خلفية دعاوى قضائية تقدمت بها جهات سياسية وغير سياسية كردية، أبرزها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني - الذي يعد المنافس الرئيسي والتقليدي للحزب الديمقراطي الكردستاني صاحب النفوذ الأقوى والأوسع في الإقليم - والاتحاد الإسلامي الكردستاني، واتحاد معلمي إقليم كردستان، ضد الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.

وبينما رحبت بها الجهات التي رفعتها، والأوساط والمحافل الشعبية في الإقليم، فضلاً عن بعض الأطراف السياسية التي لها خصومات مع حكومة أربيل والحزب الديمقراطي الكردستاني، وصف رئيس الحزب الديمقراطي مسعود البارزاني تلك القرارات بأنها منحازة بامتياز ضد إقليم كردستان، واتهم المحكمة الاتحادية العليا بتجاوز صلاحياتها الدستورية. في ذات الوقت الذي عدّ المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني في بيان له أنَّ "قرارات المحكمة الاتحادية تتعارض مع روح الدستور والحقوق الدستورية لإقليم كردستان ومبادئ الفدرالية ومبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في الدستور العراقي".

ولا شك أنَّ المحكمة الاتحادية لا تنطلق من حسابات وأجندات سياسية خاصة عند إصدار أحكامها، ولاتحابي طرفاً على حساب طرف آخر، بيد أن الدعاوى التي ترفع إليها غالباً ما تنطوي على حسابات ومصالح سياسية، وهذا أمر طبيعي جداً، لذلك تبدو قراراتها وأحكامها وكأنها مسيّسة، لاسيما وأنه خلال عام واحد أو أكثر بقليل، صدرت عنها جملة قرارات، بخصوص ملف النفط والموازنة وبرلمان الإقليم، في غير صالح حكومة الإقليم، بحيث بدا وكأنها تستهدف إضعافها وتحجيمها، وهذا الأمر صحيح إلى حد ما من الناحية الواقعية ارتباطاً بحسابات ودوافع الجهات التي رفعت الدعاوى والشكاوى للمحكمة، علماً أن هناك قضايا لم تبت بها الأخيرة، باعتبار أنها ليست من اختصاصها.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إنَّ بعض - وليس كل - قرارات المحكمة الاتحادية هي في الواقع انعكاس للصراع السياسي في داخل البيت الكردي، والبعض الآخر انعكاس للقضايا الإشكالية المعقدة والشائكة بين بغداد وأربيل، والبعض الآخر ينضوي تحت عنوان أو مسمى "أزمة الثقة" في عموم المشهد السياسي العراقي العام.

ولأسباب مختلفة، يبدو أن حكومة الإقليم ستتعاطى بواقعية وهدوء مع قرارات المحكمة الاتحادية، بالرغم من الامتعاض والاستياء منها، وهذا ما ترغب به الحكومة الاتحادية أيضاً. وبالفعل فإن إجراءات فتح فروع للمصارف الحكومية الرئيسية في محافظتي أربيل والسليمانية قد بدأت عملياً، كخطوة أولى لتطوين رواتب موظفي ومتقاعدي الإقليم، وكذلك فإن من المتوقع أن تعلن رئاسة إقليم كردستان هذا الأسبوع أو الأسبوع المقبل، الموعد النهائي لإجراء انتخابات برلمان الإقليم على ضوء التعليمات والقرارات الجديدة للمحكمة الاتحادية.

بيد أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن كل العقد قد تفككت، والأزمات قد انفرجت، والإشكاليات قد طويت، لأن واقع الحال يشير إلى أن التفاصيل والجزئيات، سواء المتعلقة برواتب الإقليم واستحقاقاته المالية السابقة واللاحقة وكذلك الالتزامات المترتبة عليه، والانتخابات، وغيرها من الأمور، هي على قدر كبير من التعقيد والتشابك والتداخل، ناهيك عن الملفات السياسية والأمنية الحساسة والمثيرة للجدل، ومن بينها أو أبرزها، ملف التواجد الأميركي في العراق، وملف إدارة محافظة كركوك من قبل مكوناتها الثلاثة، العربية والكردية والتركمانية، في خضم صراع وتدافع حاد على المواقع العليا فيها.

ليس هذا فحسب، بل لا بد أن تكون هناك تداعيات غير قليلة لقرارات المحكمة الاتحادية على المشهد الكردي العام المرتبك من الأساس، وهذه القرارات، وإن لم تفض إلى تبدل موازين القوى في الإقليم، فإنها قد تعمق من حدة الصراع والتنافس بين القوى السياسية المختلفة، خصوصاً الرئيسية منها، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكردستاني الماسك بزمام الأمور إلى حد كبير، والاتحاد الوطني الكردستاني الساعي إلى استعادة ما فقده من مكاسب وامتيازات وسلطة ونفوذ في الشارع والحكومة والبرلمان.