أعلن البنك المركزي المصري تعويم الجنيه على إثر الاجتماع الاستثنائي للجنة السياسة النقدية بتاريخ 6 آذار (مارس)، حيث جاء في البيان الصحفي: "السماح لسعر الصرف أن يتحدد وفقاً لآليات السوق. ويعتبر توحيد سعر الصرف إجراءً بالغ الأهمية، حيث يساهم في القضاء على تراكم الطلب على النقد الأجنبي في أعقاب إغلاق الفجوة بين سعر صرف السوق الرسمي والموازي". ونتيجة لذلك، قفز سعر صرف الجنيه مقابل الدولار الأميركي من 31 جنيهاً إلى أكثر من 50 جنيهاً (بنسبة 61 بالمئة). وبالرغم من عدم إشارة البيان إلى صندوق النقد الدولي، إلا أنَّ الإعلان الصحفي الصادر عن هذه المؤسسة بنفس التاريخ يؤكد أن القرار جاء ضمن مراجعة اتفاقية "التسهيلات التمويلية الموسعة" بين الحكومة المصرية والصندوق من ثلاثة مليارات دولار إلى ثمانية مليارات دولار، وفي نطاق حزمة من الإصلاحات الهيكلية تخصّ أيضاً السياسات المالية والنقدية وخفض الإنفاق العمومي على البنية التحتية للسيطرة على التضخم، وكل ذلك بهدف توفير بيئة ملائمة لتطور القطاع الخاص وتحقيق التنمية المستدامة.

بطبيعة الحال، يدرك خبراء البنك المركزي المصري آثار هذا القرار على رفع الأسعار ونسبة التضخم. فالواردات المسعرة بالعملة الأجنبية سوف تقفز أسعارها بنسبة انخفاض سعر صرف الجنيه. ويؤدي التضخم المستورد إلى دوامة من زيادة الاسعار بصفة مباشرة وغير مباشرة. وكما جاء في بيان البنك المركزي سوف يتخطى تضخم الأسعار "المعدل المستهدف والمعلن من قبل البنك المركزي المصري البالغ 7 بالمئة (± 2 نقطة مئوية) في المتوسط خلال الربع الرابع من عام 2024". بل من المحتمل أن يتواصل انخفاض سعر الصرف بدليل أنه بحدود 55 جنيهاً مقابل الدولار في الأسواق الآجلة لمدة سنة، أي سعر صرف الجنيه الذي يتم تحديده حالياً لصفقة سوف تتم بعد 12 شهراً (عوضاً عن 50 جنيهاً للصفقات الآنية).

وفي تقديري، لقد كان من المفترض تحرير سوق الصرف منذ بداية الانفتاح الاقتصادي في عهد الرئيس أنور السادات، لكن تأثير أصحاب المصلحة في النظام القديم وثورة الخبز في سنة 1977 أقنعت القيادة السياسية والرئيس حسني مبارك بعد ذلك بالتزام الحيطة والحذر في مجال الإصلاح الاقتصادي، حيث كانت الإجراءات منذ ذلك التاريخ بطيئة، وحصل تراجع في عدة مجالات بما في ذلك سياسة سعر الصرف. لكن عمق الأزمة الحالية لم يترك أي مجال لرفض متطلبات صندوق النقد الدولي، بما في ذلك اتخاذ قرار تعويم العملة المحلية الذي يؤدي إلى زيادة الأسعار في اقتصاد يعاني بالأساس من التضخم. وربما اقتنع الجانب المصري بأنَّ الزيادة المتوقعة للأسعار يمكن اعتبارها مجرد آثار جانبية لتعويم سعر الصرف، وهي أقلّ خطراً على المدى المتوسط والطويل من استمرار الوضع السابق الذي شهد اضطرابات متواصلة في الاسواق، كانت لها آثار سلبية على الاستقرار المالي والاقتصادي، بحيث أصبح الوضع غير قابل للاستدامة.

لقد أثر تحديد سعر الصرف في الماضي سلباً على الاقتصاد المصري. فوجود سوق موازية يعني فقدان الثقة بالعملة الوطنية والتنبؤ بتخفيض سعر الصرف آجلاً أم عاجلاً. وبالنسبة لمعظم الواردات، لا يتوفر الدولار بالسعر الرسمي، مما يضطر الموردين لدفع سعر أعلى في السوق الموازية، مما ينعكس على زيادة أسعار المواد المستوردة بالعملة المحلية. وبالنسبة للعمالة المصرية المهاجرة، يتم تأجيل التحويلات المالية إلى الداخل في انتظار تخفيض سعر صرف الجنيه. ويحصل نفس الشيء بالنسبة للمصدرين والمستثمرين الأجانب، الذين يترددون في عقد صفقات آنية في انتظار القرارات المتوقعة. لذلك، ليس من الخطأ أن تقدم مصر على تعويم العملة، بحيث يتم تحديد سعر الصرف حسب آليات السوق، أي وفق قانون العرض والطلب. لكن قرار تعويم العملة وإزالة العراقيل على التحويلات المالية وحركة رؤوس الأموال من وإلى داخل الدولة له متطلبات معروفة من قبل أهل الاختصاص بصندوق النقد الدولي وخارجه، من أهمها: (1) وجود نظام مصرفي قوي مؤهل لإدارة المخاطر المتعلقة بحركة رؤوس الأموال، (2) رقابة حازمة على المؤسسات المالية للتأكد من احترامها للقوانين والتشريعات، و(3) السيطرة على عجز الموازنة العامة للدولة وميزان المدفوعات بما يساعد على تحقيق النمو الاقتصادي المتوازن. ومعظم هذه الشروط غير متوفرة حالياً في مصر. وما لم تعمل السلطات على الإفادة من الدعم الفني لصندوق النقد الدولي والتمويلات الجديدة من مختلف الأطراف لتحقيق هذه المتطلبات، من غير المستبعد أن يفشل القرار الجديد ويتم التراجع عنه كما حصل في السابق، مع النتائج الوخيمة لهذا الفشل.