لا أدري إذا ما كنتُ قادرًا على تلخيص أفكاري في هذا العمود الصحفي المبرمج على عدد من الكلمات، ومتطلباته الفنية، وأنا أكتب عن زميلٍ قديم عرفته منذ السبعينيات، وهو الزميل أمجد توفيق، الذي عملنا معًا في وزارة الثقافة والإعلام في مؤسسات ومجلات عدة. وآخر لقاء لي به كان وهو يتولى منصب رئيس تحرير مجلة "فنون"، بعد تراسي للمجلة، ومغادرتي البلاد للخارج للدراسة عام 1979، ومن ثم الالتقاء به مرة أخرى طالباً في قسم الإعلام في بداية التسعينيات، وذلك عندما عدتُ للعمل بالتدريس في نفس القسم منتصف الثمانينيات.
هذا الانقطاع لسنوات الدراسة والعمل في الخارج، لم يشغلني عن متابعة كتاباته، التي بدأها بمجموعته القصصية الأولى [الثلج] عام 1974، ثم [الجبل الأبيض]، ومجموعات قصصية أخرى، ثم تحول أمجد توفيق إلى كتابة الرواية - التي برع فيها -، ثم صار أبًا لسبع روايات؛ وآخرها [الحيوان وأنا]، تلك الروايات التي وجدنا من خلالها مهندسًا روائيًّا بارعًا في بناء معمار الرواية، وفن السرد والتخيل، ورسم الصور الجميلة بالكلمات للأحداث والشخصيات.
ومثلما أثارتني إنسانيته عن قرب، وأناقته في النبل والصدق والتهذيب؛ كذلك أثارتني أعماله الأدبية المختلفة، المتسمة بعمق معانيها الإنسانية، وتفرُّدِها بالأسلوب الرشيق ذي الخزائن الملأى بالتجارب والمعارف، وكذلك قدرته على تصوير الثنائيات المتناقضة المتعلقة بالكون والحياة، وانشغاله بقضايا الإنسان والمكان والزمان.
ما أكتبه ليس نقدًا أدبيًّا خالصًا؛ وإنما هو مزواجة بين الأدب والكتابة الصحفية، وبما يتلاءم مع العمود الصحفي الذي أكتبه أسبوعيًّا، وضروراته الفنية والتحريرية؛ هو إنتاج محتوى يثير انتباهَ القارئ، ويستفز مداركَه المعرفية، ويساعده على فهم ألغاز الحياة. لذلك سأتناول الخطوط العريضة لأعماله بصفة عامة، تلك التي تتلاقى في جميع فصول حكاياته السردية، وأبطاله الذين يؤسسون حياة قصصه ورواياته.
عوالم الروائي ليست واقعية بالمعنى المجازي؛ بل هي نوع من السرد الرمزي المبطَّن بالاحتجاج على الواقع المُزري والنفاق البشري، عن طريق الرموز والرموز المجازية ذات المعاني العميقة والمتعددة؛ حيث التعبير عن الواقعية النفسية لحالات أبطاله المتناقضة والمعقدة والقلِقة، وبراعته في تصوير الذات المعذبة.
معظم أعمال أمجد، القصصية والروائية، تعتمد على السردية الممزوجة بالخيال والرمزية، وعلى فكرة التنظيم السردي شديد التعقيد، والتنوع للسرد الكثيف المليء بالمعاني الفلسفية، ورموز الإيحاء النفسي، والتكنيك البارع في بناء الشخصيات المركزية والهامشية التي تمتلئ بتجارب الزمن؛ حيث الذوات والرؤى والمواقف المؤطرة بوعي المكان والأحداث، والحكاية والشخصيات المتشكلة في إطار المرجعيات الخيالية والرمزية، المخترقة لسكون الزمن وأفعاله المختلفة.
وبهذا المعنى، استثمرت أعماله فنون السرد والخيال والرمز، بطريقة بارعة ومتناسقة مع الشخصيات والأحداث؛ فاستخدم السردَ التسلسليَّ في تصوير الأحداث، والسردَ المتقطعَ القائمَ على مونتاج الأحداث، وكذلك الحوارات والمحادثات بين الشخصيات؛ بهدف إغناء الأحداث والشخصيات بأفعال الحياة، ضمن منطق السرد الخطابي. مثلما اجتهد في نقل تجاربه الشخصية بطريقة ذكية؛ للتعبير عن أفكاره ومشاعره وتجاربه الشخصية التي تأجَّجت بين السطور.
ويبدو أن شخصياته مبرمجة ضمن خوارزميات الحياة؛ هي شخصيات: رئيسة وثانوية، ونامية وثابتة، ومدوَّرة ومسطحة، وواقعية وخيالية، تمتزج في وصفها بالخيال الفني للروائي، وبمخزونه الثقافي. وهي متنوعة الأفعال والأمزجة والرغبات والتطلُّعات، ومعادلة لبؤرة التوتر الدرامي للنص الروائي. بل نجدها أحيانًا صوت الكاتب نفسه، وليس شخصيته، وهي قيمة متغيرة وليست ثابتة؛ لذلك قال البعض: "إن الرواية شخصية".
إقرأ أيضاً: كن فيلسوفًا في الحياة
شخصياتٌ مثل: (بارق) و(دانيال) و(بشار) و(ينال) و(عبد الله) و(سيف)، وغيرهم، هم أبناء الواقع وتناقضات الحياة، الذين خُلِقوا للبحث عن معنى الحياة والحرية بطريقتهم الخاصة، رغم التناقض والإحباط وحب الذات وفوضى الواقع. ومع ذلك يمتلك بعضهم موقفًا جريئًا من الواقع، والظلم من عنف الواقع، واستلاب الحقوق. وكما يقول إسماعيل عبد الوهاب إسماعيل في تقديم رواية (ينال): "أمجد توفيق أراد أن يركز على مبدأ أن من يُعنِّف لا يجد إلا العنف المُضاد– حين تغيب العدالة– كوسيلة لاسترجاع الحق الذاتي".
لا شيء يماثل السرد في بناء الشخصيات، وقدرة الروائي على استرجاع الزمن، وترتيب الحياة بطريقة مبهرة، وحفر ونبش تربة الواقع، وخلق العلاقة الجدلية بين النص السردي وقضية الحرية؛ رغم انخراط الشخصيات الرئيسة في مجازات التخيُّل، وأهوال الحياة وخرابها. وهي بتعبير الروائي: "ليسوا أناسًا عاديين؛ بل كانوا أصحابَ مشاريع، وهم مؤمنون أن الحياة لن تُعادَ مرةً أخرى".
لا أدري إذا كنت محقًّا في القول، وأنا أقرأ معظم أعماله، بأنها كانت من صنع رجل حاذق في فن التمرير والتمويه، هذه الأعمال المُؤطّرة بصناعة سردية أدبية مثيرة بتعابيرها اللغوية، وبارعة في جذب المُتلقِّي. ولقد يجد بعض القراء صعوبة في اكتشاف المعاني الدلالية لشخوصه وأحداثه، حيث التكنيك الفني البارع في المزج بين الرمزية والخيال، وهو ما يُسمى بالسرد السحري، والذكاء الفني في أسلوب المناورة الفكرية؛ للاحتجاج على الرموز السياسية أو الاجتماعية التي فتحت أبواب جهنم لتلويث الواقع، وإشعال الصراعات. وقد فعلها الروائي من خلال استخدامه سواخر سرد للعناصرَ الخرافية والسحرية والخيالية؛ لإضفاء جوِّ الغموض وإعمال الفكر و...التشويق.
إقرأ أيضاً: تفاهات الرَّقمنة
ولعل قيمة معظم أعماله أنها تُدخِلك إلى عوالم اليقظة المعرفية؛ لاكتشاف الواقع بتنويعاته ومتناقضاته الاجتماعية والثقافية، والتعبير عن العواطف والمشاعر والمعتقدات؛ بهدف تشجيع القارئ على التحليل والتفكير العميق؛ لفهم الرموز المختلفة التي يبرع في استثمارها في الفعل الروائي؛ مما يجعلها جزءاً أساسيًّا من النص؛ لتصير بذلك فاعلة في عملية التلقِّي والتأثير، وكأنها بنية حاسوبية متشابهة في المبنى، والمعنى، والإيقاع، والشكل والمضمون.
تبقى الأعمال الروائية المختلفة لأمجد توفيق، شاهدة على تجربة وجودية ديناميكية بالزمان والمكان، استشرفت قلقَ الإنسان مع المكان المعيش، وتعاسته مع الزمن المتغير، كذلك براعته في سبك العبارة وتلطيفها بجمال التعبير، والنظام المتقن لصوتيات الكلمة والعبارة الرشيقة والتدفق السردي للأحداث والشخصيات، والأفكار الباذخة للمعاني والدلالات، والكفاءة الإيحائية للمعاني المبطنة. لذلك جسد مفهوم (الفرادة) والخصوصية الأسلوبية بين زملائه من الروائيين.
إقرأ أيضاً: الحنين إلى خرافة الجن والعفاريت
بالمختصر، قيمة أعمال الروائي، هي في انتصارها للإنسان بوطنية الفكر ورسالة المعرفة، وتمركزها في جغرافيا الوطن. إنها (الفعل والفاعل) الذي لا يغيب عن صوت الوطن، حتى ولو بالسرد الرمزي، والتفسير المتعدد، والتأويل المختلف؛ والأهم هو جسارتها في تحريك الساكن وإذابة المتجمد. وهي (أصوات ينبعث عنها المعنى)؛ حيث الدعوة إلى الحرية التي قال عنها الكاتب البيروفي فارغاسيوسا:" إننا لولا الروايات لكُنَّا أقلَّ إدراكًا لقيمة الحرية التي تجعل الحياة تستحق أن تُعاش ".
وأمجد في سردياته صنع لنا حرية الحياة في رواياته التي كانت ظلالها طويلة. شهادة عن زمن سخر من تناقضات البشر وتوحشهم، وشهد على عفونة الواقع الفوضوي الخرب. كتب وثيقة الحياة، وتركنا مندهشين من هول صدمة العيش، وما تسمعه آذان أرواحنا من تمتمات السحر في سردياته.
التعليقات