أكثر من عشرين عاماً على إسقاط النظام البعثي على أثر الغزو والاحتلال الأميركي للعراق، وما زالت الشلة الإسلامية، التي جاءت تحت حراب المارينز ودبابات ابرامز وطائرات أباتشي ليتم تنصيبها على رقاب جماهير العراق، ترتعب من اسم البعث والبعثيين.

أكثر من عشرين عاماً من تنصيب الأحزاب الإسلامية الشيعية وتياراتها في السلطة، حيث شكلت ميليشيات مختلفة، آخرها كان الحشد الشعبي، عندما فشلت في تأسيس "الدولة" بالمعنى الأمني والعسكري، وعقيدة ذات هوية وبغض النظر عن محتواها، إذ تبخرت "الدولة" أمام 200 عنصر من عصابات داعش في حزيران (يونيو) من عام 2014، تاركة وراءها ما لذَّ وطاب من آلة القمع العسكرية التي أنفق عليها المليارات من الدولارات من قبل الأمين العام للحزب الدعوة الإسلامية ورئيس الوزراء نوري المالكي والوكيل الحصري للإطار التنسيقي الحالي (تحالف من الأحزاب الإسلامية والمليشيات التابعة لولاية الفقيه).

أكثر من عشرين عاماً وما زال شبح البعث يطاردهم في منامهم وأحلامهم ويقظتهم، ويرتعبون من صورة للنظام البعثي على الموبايل أو يحملها شخص أو يرسمها شخص ما، بل إنهم ومن شد ما ينتابهم من "البعث فوبيا" يتخيلون طواحين الهواء بعثية، مثلما كان يتخيل دون كيشوت الذي جاء في رواية ميغيل سرفانتس.

ومصدر هذا الهلع والخوف من البعث ليست جرائمه، بحقهم، وبحق المعارضين الذي كان في مقدمتهم الشيوعيين، منذ أن نظموا لهم حفلة عرس الدم في انقلاب الثامن من شباط (فبراير)1963، وفتحت بيوت أجداد قسم ممن هم اليوم في السلطة، مقبرة للشيوعيين مثل محمد مهدي الخالصي وغيره، محتمياً بفتوى محسن الحكيم (الشيوعية كفر وإلحاد) الذي كان يشغل منصب المرجع الشيعي الأعلى حينها، وبدعم المخابرات والبريطانية والأميركية. وليس مصدر ذلك الهلع أيضاً عقدة الشعور بالذنب تجاه البعث، عندما شرعوا القوانين مثل "اجتثاث البعث"، وبموجبه قطعت أرزاق آلاف من الذين أرغموا على دخول حزب البعث للحصول على وظيفة، أو ذريعة لإبعاد المخالفين وتصفيتهم سياسياً.

إنَّ الهلع من البعث، وبعد أكثر من عقدين من الزمن يكشف دون أي لبس ولا مواربة، تلك الهشاشة السياسية والمكانة الاجتماعية لهذه الجماعات وسلطتها الميليشياتية الجائرة والفاسدة. والحق يقال إنَّ هذه الجماعات لم تدخر جهداً أو مسعى لتجذير تيارها وترسيخه في أرض المجتمع العراقي، فقد قامت بعمليات القتل والتصفيات الجسدية وشراء الذمم والزبائنية، والتطهير الديموغرافي، وتفتق خيالها في سن القوانين أو تسخيرها في خلق الذرائع للترويج لأفكارها وعقيدتها مثل معاقبة أصحاب "الفيديوهات الهابطة" دون أي مسوغ قانوني أو معيار، ومحاكمة كل من يستخدم مصطلح "الجندر" والمثلية"، أو الإنفاق الهائل على المواكب الدينية واستغلال مناسباتها، ومحاولة خلق وتحريك مشاعر شعبوية حول مسألة حرق القرآن، وغير ذلك، لكن المعطيات الواقعية تثبت بأن تلك الجماعات فشلت في احتلال مكانة ما داخل المجتمع وفي صفوف الجماهير. لذلك، نجد أنَّها مرتعبة ليس من البعث وحسب بل من أي رأي معارض.

ولا يمكن تحليل هذا الرعب، من "بعبع البعث" الذي يجتاح صدور هذه الجماعات من منطلق نفسي وانتقامي، أو في أفضل الأحوال بأن هذه الجماعات تحاول إشغال الجماهير وجرها إلى مكان آخر للتغطية على فسادها ونهبها وجرائمها بحق جماهير العراق. نعم هذا التحليل يمكن الوصول إليه كتحصيل حاصل، ولكن لا يمكنه فك لغز ذلك الرعب، إذ يسقط، أي ذاك التحليل، في السطحية والابتذال، وبالتالي لا يمكن البناء عليه، ومن ثم لا يمكن وعي الأرضية السياسية والاجتماعية التي نقف عليها لطي صفحة أكثر حثالات المجتمع سياسية واجتماعية وكنسها من التاريخ.

ثلاثة مسائل تجعل سلطة الإسلام السياسي الشيعي الحاكم ترتعب من البعث، الأولى أنَّها تدرك بشكل واع أنَّ من أسقط النظام البعثي يمكنه من جديد إسقاطها، فإذا كان الأول تيار سياسي اجتماعي ومتجذر وممثلاً للتيار القومي العروبي في العراق والمنطقة، ومع هذا دفن في مكان ما من التاريخ، فإنَّ الإسلام السياسي الشيعي الذي لم يستطع أن يتحول إلى تيار معتبر اجتماعياً، بالرغم من سيطرته على السلطة وله بعد إقليمي وداعم له وهو الجمهورية الإسلامية في إيران، يخشى من ذات المصير، وأكثر ما زاد من درجة ومساحة هذا الرعب هو شبح إعادة طالبان إلى السلطة بعد عشرين عاماً من الاحتلال الأميركي لأفغانستان، فالخوف كل الخوف من إعادة نفس السيناريو في العراق، وخاصة بعد حرب إسرائيل على غزة والمساعي لإعادة صياغة معادلات سياسية في المنطقة. وهذا يثبت صحة ما نذهب إليه وهو هشاشة المكانة السياسية والاجتماعية لهذا الجماعات التي لن تستطيع أن تحكم ليوم واحد دون دعم دول لها والتفنن باستخدام آلة القمع.

بيد أنَّ هذا ليس كل اللوحة، فما يعزز هذا الشعور أو يرفع من درجة "البعث فوبيا" عند هذا الجماعات، والذي يعد العامل الثاني هي كابوس انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر)، بالرغم من إشراف مستشاري الحرس الثوري الإيراني على قمع الانتفاضة عبر قناصة المليشيات الموالية لها، من أعلى أسطح البنايات، إلا أنَّ العشرات من مقرات الأحزاب الإسلامية حرقت في قلاع هذه الجماعات ومخابرات الجمهورية الإسلامية، والجميع ولوا هاربين إلى ما وراء الحدود باتجاه حدود "البوابة الشرقية للأمة العربية". ألم تكن هذه البوابة نقطة مواجهة دموية بين التيار القومي البعثي الذي قاده صدام حسين والتيار الإسلامي الذي تزعمه الخميني! وكل ما دار من حلقات سياسة وأمنية وعسكرية وعمليات التصفية للقادة والضباط الجيش والبعثيين بعد احتلال العراق من قبل المخابرات الإيرانية، وكان يخبأ الغرض الرئيسي منه وهو تصفية ذلك التيار القومي بأي شكل وبأي ثمن، لأنَّ الجماعات المنتمية إلى تيار الخميني، تدرك أنَّ منافسها هو التيار القومي العروبي ومن الممكن له أن يزيحها في أي لحظة كانت، وبنفس السيناريو الذي تم إزاحة غريمها الأول.

أمّا العامل الثالث، فهو فشل هذه الجماعات في قلع جذور المدنية والتحضر من عمق تاريخ المجتمع العراقي، بالرغم من أنها قد صبت كل مساعيها في تحويل العراق إلى مكب لنفايات الأفكار الرجعية والعفنة والمنفصل عن التاريخ الإنساني، فهي لا تؤمن سوى بالغيبيات ومحاولة لأسر مخيلة المجتمع بانتظار الخلاص الأبدي والذي يسمونه "مهدي المنتظر"، للحيلولة دون أن تمتد يد الجماهير إلى سلطتها وانتزاعها منها ومحاسبتها على كل فسادها ونهبها، بنفس القدر تدرك أنَّ مأثرها، وخلال عشرين عاماً من سلطتها، لم تقل إجراماً عما فعله النظام البعثي، فإذا كان البعث "طب ساكت" كما يقال باللهجة المصرية، فإنَّ سلطة هذه الجماعات لن تكن في حال أفضل، وهو ما تدركه جيداً.