فى مصر صراع محتدم تحت السطح؛ صراع اشتعل منذ القرن السادس ولم تخبُ جذوته حتى اليوم؛ صراع شعبي ورسمي ونخبوي؛ صراع ثقافي واجتماعي وطائفي؛ صراع طال كل مناحي الحياة في المحروسه بدءاً من الأسماء والأزياء والمعمار والفنون وحتى الرياضة، وصولاً إلى الشراب والغذاء. هذا الصراع أنتج مجتمعاً قلقاً متوتراً، يتجذر ويعلو فيه كل يوم الحاجز النفسي والحياتي بين مكونات المجتمع؛ هذا الصراع أعاق تقدم أمة بأسرها، وخلق أجيالاً متوترة بهويات مترددة.

وصراع الهوية المحتقن تغذيه أزمات اقتصادية طاحنة، مما يزيد معه معامل الاحتكاك، فتنفجر أحداثاً طائفية غالباً ما تكون دامية، وخصوصاً بعد أن وضع السادات اللبنة الأولى للدولة الدينية (الإسلام دين ودولة)، تلك اللبنة التى تلقفتها تيارات العنف والكراهية، وأسست قواعدها وانتظمت في إطارها على هذا الأساس العنصري القائم على الفرز والإقصاء والتمييز والتعالي والاحتقار؛ وهؤلاء هم أنصار تيارات دينية معروفة أهدافها.

إقرأ أيضاً: حرب الرقائق

وإن كان صراع الهوية المشتعل الآن فى مصر يبدو أنه تحت السطح، ألا أنَّ أدواته جميعها فوق السطح، منها القديم ومنها الحديث، ومنها المستحدث، وبالطبع أقدمها هو المساجد. فالمآذن هي عنصر هوية أصيل في الثقافة الإسلامية، ولحق بها عنصر مستحدث وهو الميكروفون، وأصبحت المئذنة والميكروفون هما العنوان الأبرز للهوية، وتكنى القاهرة في التراث التاريخي بأنها عاصمة الألف مئذنة، وأصبح نشر المساجد غاية وليست وسيلة صلاة وايمان وهداية، فكثافتها على الأرض هو دليل هوية غالبة أو هكذا يعتقدون.

إقرأ أيضاًَ: تترات قديمة

وهناك جمعيات وكيانات وأفراد، هذا الغرض هو اختصاصهم الرئيس، بعضهم في الداخل مهمته التنفيذ، وبعضهم فى الخارج وهم المتخصصون بالتمويل، ولم تستطع الدولة تقنين أو تنظيم بناء المساجد على مر العصور، في حين يخضع بناء كنيسة لإجراءات عسيرة تتطلب قراراً جمهورياً، وحتى هذا يمكن تعطيله بإنشاء زاوية أو مسجد قريب من موقعها المقترح، فتفقد شرطاً من شروط إنشائها، وهو المسافة بينها وأقرب مسجد أو زاوية، ويبدأ البحث المضني عن موقع جديد لبناء كنيسة يصلى فيها مواطنون مصريون ليسوا وافدين ولا جاليات ولا لاجئين، كل ذلك لطمس أي هوية مغايرة.

إقرأ أيضاًَ: التوجس العرقي

إلا أنَّ أنصار (دولة مدنية حديثة) لهم أدواتهم أيضاً، وعلى رأسها ما يسمى بالهوية البصرية. فمباني العدل والشرطة ومبان حكومية أخرى تأخذ الطابع الفرعوني فى معمارها، مما يثير حفيظة المؤسسة الدينية، ولعل حالة الجفاء الحاد التي لا تخطئها عين بين الأزهر والقيادة السياسية تبين لنا بجلاء ما وصل إليه الحال في هذا الملف الشائك وملفات أخرى، فالقيادة السياسيه تبدو توجهاتها متوازنة إلى حد ما في كثير من المواقف التي تغذي هذا الصراع، ومواقف أخرى بغرض كبح جماح المؤسسة الدينية ووقف تغولها وتوغلها.

وإذا لم يتوافق المصريون في أقرب وقت على أرضية مشتركة لهويتهم بصيغة تحتوي كل الأعراق والثقافات فى كيان واحد مستقر هادئ، سينتقل الصراع من تحت السطح إلى فوقه.