مثل كل أبناء جيلي من مواليد أوائل الخمسينيات، أو على الأقل جلهم، تظل سينما الأبيض والأسود وشاشتها الفضية عشقنا الأثير؛ أولاً لأنَّ تلك المرحلة (حتى أواخر الستينيات) مثلت سني مراهقتنا الأولى، وثانياً لأنَّ الإبداعات البكر المبهرة لهذا الفن الجديد خلبت ألبابنا الغضة، وثالثاً لأنَّ المناخ العام كان في تلك الحقبة الذهبية (1940 ــ 1970) تربة خصبة لنمو كل فروع الثقافة من مسرح وسينما وتشكيل وشعر ورواية ونقد، وفرسان تلك الحقبة ما زالوا يشكلون رموزاً ملهمة لم تخبُ جذوة شعلتها حتى اليوم، ورابعاً لأنَّ لوحة الفسيسفاء العرقية التي أسست لهذة الصناعة الوليدة (وصناعات أخرى) كانت نموذجاً رائعاً للتفاعل بين الثقافات.

كانت الدقائق الأولى من أفلام هذة الحقبة، والتي تعرض أسماء فريق العمل والممثلين (التتر) تعج بأسماء من كل الثقافات والأعراق؛ يهود وأرمن وإيطاليون ويونانيون وفرنسيون وشوام، وغير ذلك كثر، صنعوا نهضة في هذا المضمار بالذات، وأنشأوا نموذجاً يحتذى به في صنع الاختلاف، الأمر الذي مكن من صنع نهضة لم تقتصر على السينما فقط، بل تجاوزتها إلى مجالات أخرى كثيرة من صناعة وزراعة وتجارة وفنون. ولا غرو فقد قامت نهضة أمم كثيرة على هذا العامل الرئيس، أي الاندماج الحضاري والعيش المشترك بين مختلفين؛ قامت أميركا أقوى دولة على أساس هذا المبدأ، لتضم مئات العرقيات والثقافات والمذاهب التي اتفقت وتوافقت وارتضت هذا المبدأ دستوراً لحياتها، الأمر الذي مكنها من خلق أقوى اقتصاد يتحكم في كل اقتصاديات الدنيا.

إقرأ أيضاً: لا مكان للانبهار.. انتهى زمن الكبار

أمَّا كيف يصنع الاختلاف نهضة فتلك سنة كونية؛ في المبدأ العلمي المتفق عليه في علم الوراثة عما ينشأ من نتاج في حال زواج الأقارب المتتالي، هو نفس النتاج في حال لم يتحدث الناس سوى إلى أنفسهم ولم يتداولوا إلا أفكارهم، ولم يروا جديداً لغيرهم لقرون طويلة... فالنتاج الحتمي في الحالة الأولى نسل عليل مشوه يفقد مع الزمن خصائص القوة المطبوعة على شريط جيناته، وفي الثانية يحدث نفس التأثير إذ تتوقف منظومة الابتكار والتجديد والتفاعل الفكري، ويصبح الانحدار مستقبلاً حتمياً لأقوام عاشت منعزلة تخشى الاختلاط، أو بالأحرى الاختلاف.

إقرأ أيضاً: وضع العراق وكردستان بعد الانسحاب الأميركي

تعزز وجهة نظرنا أمثلة لمجتمعات كانت مثالاً للاندماج والتعايش، وأصبحت "غيتوهات" عرقية ومذهبية منعزلة؛ كانت واحة ثقافة وازدهار وسياحة ومال وأعمال، وأصبحت ساحة صراع وفقر واضمحلال فكري؛ نتحدث عن لبنان على سبيل المثال، وقس العراق وسوريا ومصر وغيرها على هذا، وابحث الآن في تتر أي فيلم أو لافتة على محل، ستجد التشابه الفكري هو العنوان، حيث ضاعت إلى الأبد معالم نهضة لطالما أعطت منتجاً عظيماً، وحلت في محلها الشعوبية والتعصب والفرز والعزل والتمييز بالأسماء والأزياء، والنتيجة الحتمية فقر وصراعات وانهيارات اقتصادية وأخلاقية وفكرية.