إطلاق المرجع السيستاني فتوى الجهاد الكفائي عام 2014 كان ضرورة ملحة في حينها لمواجهة داعش التي احتلت ثلث العراق، وبالرغم من وضوح الفتوى في توجيه المتطوعين للانخراط في صفوف الجيش، إلا أن إرادة أمراء الحرب فرضت تشكيل مليشيات مستقلة لها هيكلية خاصة تحولت بعدها إلى ذراع لتنفيذ أجندات غير عراقية داخل العراق والمنطقة.

وبعد تحرير المناطق التي احتلتها داعش وانتهاء الحرب، ظهرت بوادر توحي بتبني هذه المليشيات توجهات لا تتفق مع التوجهات العراقية الخالصة، فطالب الكثيرون السيد السيستاني بإطلاق فتوى تنهي دور هذه المليشيات، إلا أن التحرك السياسي الإيراني كان سريعاًو وأدت ضغوطاته على القوى السياسية إلى تمرير قانون الحشد الشعبي في البرلمان، ليتم بذلك شرعنة تلك المليشيات ثم تسييسها، فأصبح إصدار أي فتوى جديدة لحلها أمراً غير ذي جدوى.

شهد العراقيون كيفية انحراف مسار الهدف من تشكيل هذه المليشيات والتنصل من موجبات فتوى السيد السيستاني، فتحولت هذه المليشيات إلى ذراع أمني للأحزاب الشيعية العراقية، ضربت بيد من حديد تظاهرات الشباب العراقي المنتفض على الفساد والتبعية، وحدثت عمليات اغتيال كثيرة للشباب المنتفض، سجل أغلبها ضد مجهول لغاية اليوم، أعقب ذلك دخولها في صراعات إقليمية، لينتهي بها الأمر مؤخراً للدخول في صراعات دولية لا ناقة للعراق فيها ولا جمل.

منذ الأيام الأولى لتشكيل الفصائل المسلحة، تحاول القوى السياسية الشيعية تسويق فكرة تفيد بالتمييز بين الفصائل المسلحة التي تقاتل خارج العراق، وبين الفصائل المسلحة الموجودة في العراق، وكثيراً ما كان العبادي، الذي كان رئيساً للوزراء حينها، يظهر في الإعلام ليؤكد أن الفصائل التي تقاتل خارج العراق لا علاقة لها بالحكومة العراقية، وليست ضمن المؤسسة العسكرية العراقية. كذلك، في بداية استهداف البعثات الدبلوماسية الأجنبية وقواعد التحالف الدولي، حاولت الفصائل تسويق فكرة أن لا علاقة لها بتلك العمليات، واضعة أسماء وهمية لفصائل لا وجود لها أساساً، لتبعد عن نفسها وعن الحكومة العراقية أي إحراج، غير أن مسار الأحداث بعد ذلك أثبت:

* أنَّ الفصائل التي كانت تقاتل في سوريا هي نفسها الموجودة في العراق.

* وأنَّ الفصائل التي تقاتل في سوريا والتي "هي نفسها الموجودة في العراق" هي أيضاً نفس الفصائل التي تستهدف قواعد التحالف الدولي الموجودة في العراق ضمن اتفاقية استراتيجية مع الحكومة.

* وأنَّ الفصائل التي تقاتل في سوريا "والتي هي نفسها الموجودة في العراق" لها حصص في الحكومة العراقية ولها كتل في البرلمان العراقي.

* ثم اثبتت الأحداث مؤخراً أنَّ الفصائل المسلحة التي تقاتل في سوريا "والتي هي نفسها الموجودة في العراق" ولها "تمثيل في الحكومة العراقية وفي البرلمان العراقي" هي نفسها التي كانت تستهدف البعثات الدبلوماسية وقواعد التحالف الدولي في العراق ولا زالت تستهدف.

إزاء هذا التداخل السياسي والعسكري وهذه الفوضى الأمنية السياسية، تقف الحكومة العراقية "كشخصية معنوية" عاجزة عن فرض إرادتها على هذه الفصائل. ليس هذا فحسب، بل أصبحت هذه الفصائل هي من تدير العملية السياسية في العراق، وهي من توجه الحكومة العراقية حسب مصالحها.

إقرأ أيضاً: مغادرة القوات الأميركية في الميزان

لا نريد الركون هنا إلى نظرية المؤامرة، بالقول إنَّ الإسلام السياسي هو مؤامرة دولية تهدف إلى إبقاء المنطقة في صراعات مستمرة، لكن نستطيع القول إن تجارب قرن من الزمن أثبتت أن الإسلام السياسي، بشقيه السني والشيعي، غير قادر على إدارة دول حديثة. فيمكن أن يكون الإسلامي ثائراً جيداً ومعارضاً شرساً، لكنه لا يستطيع أن يكون رجل دولة ناجحاً يدير حكومة ومؤسسات، وتجربة الإسلاميين في مصر والسودان وأفغانستان وتونس وباكستان خير أدلة على ذلك. وبالطبع، لا تشذ تركيا وإيران عن هذه القاعدة، ولنا أن نتصور كيف كانت إيران ستكون لو لم يستلم الإسلام السياسي الحكم فيها.

إنَّ تجربة الإسلام السياسي في العراق هي من أكثر التجارب التي تؤكد فشل هذا الفكر في إدارة الدول. فعلى مدار أكثر من واحد وعشرين سنة بعد سقوط نظام صدام حسين، أثبتت الأحزاب الإسلامية "الشيعية" أنها غير قادرة على إدارة مدينة صغيرة عوضاً عن بلد بحجم العراق وتعقيداته.

فبالرغم من دعم كل المجتمع الدولي للحكومة العراقية سياسياً واقتصادياً وأمنياً، إلا أن هذه الأحزاب "الإسلامية" فشلت في توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة للمواطن العراقي... وبالرغم من سيطرتها على جميع مؤسسات الدولة، إلا أنها فشلت في توفير الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني للشعب، وفشلت في إذابة الحساسيات القومية والمذهبية والدينية بين مكوناته، ولم تستطع استقطاب المكونين السني والكوردي وجعلهما ينظران لبغداد بأنها عاصمة اتحادية توحدهم، حتى أنها فشلت في تقديم أبسط الخدمات للمحافظات ذات الأغلبية الشيعية التي تمثل جمهورهم... وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على عدم قدرتهم وعجزهم عن ذلك.

إن كانت هذه الأحزاب قد نجحت في شيء، فإنها قد نجحت في ثلاث أمور فقط وهي:

الأول... نجاحها في وضع العراق على صدارة الدول الأكثر فساداً في العالم.

الثاني... نجاحها في وضع العراق تحت سيطرة مليشيات متصارعة، أدخلت العراق في مشاكل هو في غنى عنها، وجعلته رهين دولة أخرى ليست بأحسن منه وهي إيران...

ولك أن تتخيل وضع دولة تعاني من طوقين إسلاميين "الطوق الإسلامي العراقي والطوق الإسلامي الإيراني".

الثالث... نجاحها في مسك العصا من الوسط بين أميركا وإيران... وهو أقصى ما وصل إليه سقف الممارسة السياسية لتلك الأحزاب، ساعدته في ذلك الإرادتين الأميركية والإيرانية وحاجتهما لأن تكون الحكومة العراقية قناة اتصال بينهما في الكثير من القضايا ذات الاهتمام المشترك... هذه الرغبة دفعت بأميركا كي تغض نظرها عن الكثير من الممارسات التي كانت المليشيات تمارسها حسب المصلحة الإيرانية، سواء من الناحية السياسية أو الأمنية وحتى الاقتصادية.

إنَّ ارتباط هذه المليشيات "سياسياً وعقائدياً" بإيران دفع بها للانخراط في أجندات لا تصب في صالح الشعب العراقي، مثل إصرارها على مغادرة قوات التحالف العراق، وهذا الإصرار ليس وليد حرب غزة "كما تحاول هذه الفصائل إظهارها الآن"، وإنما سبقها بسنوات، وقد حاولت صبغ مطلبها هذا بصبغة وطنية عراقية، إلا أن استهدافها لقواعد التحالف في سوريا يثبت أن موقفها هذا ينطلق من مصلحة إيرانية خالصة لا علاقة لها بالمصلحة العراقية.

وإن كانت الإرادتين الأميركية والإيرانية قد هيئت الظروف للأحزاب العراقية الشيعية المشكلة للحكومة لمسك العصا من الوسط بين الطرفين كما أسلفنا، فإنَّ الظروف التي تمر بها المنطقة حالياً توحي بأنه لم يعد بالإمكان ممارسة هذه السياسة، بل يجب أن تتوضح الخنادق على المبدأ الأميركي الذي يقول "من ليس معي فهو ضدي"، خصوصاً بعد اغتيال ثلاثة جنود أميركان في قصف قاعدة أميركية على الحدود السورية الأردنية مؤخراً.

إقرأ أيضاً: هل يسرقون المطر الإيراني؟

إنَّ تبرؤ إيران من أي علاقة لها بتصرف أذرعها في المنطقة يفترض أن يكون مفترقاً فاصلاً كي تراجع الحكومة العراقية سياستها في التعامل مع ملف الفصائل داخلياً وخارجياً، وكذلك موقفها من الحكومة الإيرانية. فإن كانت إيران قد تبرأت من أذرعها التي هي شكلتها ودعمتها وأبقتها وحيدة في مواجهة الرد الأميركي، فكيف سيكون موقفها من أي مشكلة تواجه الحكومة العراقية؟

هذا الموقف الإيراني كشف عن النظرة الإيرانية لأذرعها، والتي لا تعدو أن تكون نظرة سيد لعبده، يبيعه بأبخس الأثمان عند الاضطرار، وكشف أيضاً عما تعانيه هذه الفصائل من ضعف أمام "الشقيق" الإيراني و"العدو" الأميركي، بأن يبيعه الشقيق ويضربه العدو، وما تعليق إحدى تلك المليشيات هجماتها ضد القواعد الأميركية في العراق وسوريا، إلا دليل على هذا الضعف المركب.

والمفارقة هنا أنَّ فصيلاً يدعي المقاومة لسنوات تتوقف مقاومته بمجرد إعلان "العدو" نيته على الرد، وهو ما يكشف عن سطحية العمل القتالي لتلك المليشيات وسرعة تأثرها بالتطورات السياسية، بحيث يمكن إطلاق صفة "مقاومة مؤقتة" على عملها القتالي.

المؤسف أن الموقف الرسمي العراقي تجاه القصف الأميركي لمواقع الفصائل لا يتناسب مع حكومة تعرف وضعها وحجمها في خضم التعقيدات الإقليمية الحالية، فقد انجرت مع الموقف الذي اتخذته الفصائل "خوفاً أو طمعاً" من خلال إدانة القصف الأميركي والتنديد به، دون مراعاة المصالح الوطنية العراقية في ذلك... فالحكومة العراقية في موقفها الحالي كان يفترض أن تراعي النقاط التالية:

* إن القوات الأميركية "سواء أكانوا مستشارين أو مقاتلين" موجودة في العراق باتفاق معها... فإن كانت الحكومة العراقية قد وافقت على هذه الاتفاقية "مضطرة"، فعليها آنذاك أن تراعي ضعفها تجاه قوة عظمى تحكم العالم. أما إن كانت قد وافقت على الاتفاقية من منطلق المصلحة العراقية، فعليها أن تلتزم ببنودها وتعاقب من يحاول تقويضها، لأن من أهم بنود تلك الاتفاقية هي أن يواجه الطرفان التهديدات الأمنية عليهما. وعليه، فإنَّ الحكومة العراقية ملزمة بحماية تلك القوات، وهي من أخلت ببنود تلك الاتفاقية.

* إنَّ من ينتهك سيادة الدولة ليست القوات الأميركية الموجودة في العراق، وإنما الجهة التي استهدفت تلك القوات. وعليه، فإنَّ الحكومة العراقية مطالبة إما بوقف استهداف هذه القوات، أو محاربة من يقوم بذلك كما قلنا آنفاً، أما إذا فشلت الحكومة العراقية في حماية هذه القوات، "وهذا ما هو حاصل"، فإنَّ لأميركا الحق في حماية قواتها، وعلى الحكومة العراقية أن تؤيد دفاع هذه القوات عن نفسها لا أن تدينه.

* إنَّ تنديد الحكومة العراقية بالقصف الأميركي على مواقع الفصائل واعتباره انتهاكاً للسيادة العراقية يضع الحكومة العراقية في سلة واحدة مع هذه الفصائل، ويعكس موقفاً عراقياً جديداً بأنه يتضامن مع محور المقاومة وفصائله، مما يجعلها في المعسكر المعادي لأميركا.

* إنَّ اصطفاف العراق مع هذا المعسكر المعادي لأميريكا سينتج عنه تداعيات سلبية كثيرة على الوضع العراقي، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ويخلق مشاكل كثيرة العراق في غنى عنها خصوصاً في هذه الظروف.

* إنَّ الظروف الحالية في المنطقة خطيرة لدرجة تستوجب من كل حكوماتها "العاقلة" التعامل بحكمة مع أي تطور فيها، لا أن تتخذ مواقف متشنجة من هذا الطرف أو ذاك، فحتى الحكومة الإيرانية "المعنية" مباشرة بكل ما يحصل في المنطقة، تتعامل مع هذه الظروف بالكثير من الحكمة والروية وأحياناً التنازل من أجل أن لا تنجر لهذا الصراع...

إنَّ موقف الحكومة العراقية هذا لا يمكن أن يمثل موقف جميع المكونات العراقية، خصوصاً الكوردية والسنية "المشاركة في تلك الحكومة"... خصوصاً أن هذين المكونين لا يتعرضان للضغوطات الداخلية التي تتعرض لها الأطراف الشيعية الموجودة في الحكومة من قبل الفصائل المسلحة. لذلك، ولتجنب الغضب الإيراني أو المليشياوي عليها، كان بإمكانها اللجوء الى شركائها في الحكومة ومؤسساتها الرسمية لاتخاذ موقف حيادي من الصراع الأميركي الإيراني الحالي، فهذا اللجوء كفيل بإنقاذ الطرف الشيعي نفسه من أي عواقب إيرانية عليه، فيما أذا كانت للمصلحة العراقية أولوية عنده، أمَّا إذا كانت المصلحة الإيرانية هي الأولوية عند المكون الشيعي، فبإمكانه اللجوء إلى أغلبيته في الحكومة والبرلمان واتخاذ القرار الذي يراه مناسباً للشقيقة إيران، وحينها يجب عليه وحده تحمل مسؤولية التبعات التي ستنتج عن هذا الموقف.