العرق مكون مادي بحت، يضمّ مجموعة من البشر يشتركون في صفات غالبة لوناً وملامح وطولاً ووزناً وأحياناً رائحة، بالإضافة إلى شريط وراثي مطبوع في خلاياهم، يمنع عليهم (إن لم يتزاوجوا بغرباء) أن يخرجوا من هذه المظلة القسرية التي لم يختاروها بأنفسهم.

كل عرق يعيش في بيئة محددة، ويعتنق عقيدة خاصة، وينتج عن هذا الاندماج فكراً وثقافة ذات طابع متفرد. فعندما امتزج العرب بالإسلام في بيئة صحراوية كجزيرة العرب، كان النتاج الفكري والثقافي مختلفاً عما نتج من امتزاج الأفارقة أو الأمازيغ أو النوبيين أو الأتراك أو أهل شرق آسيا مع الإسلام فى بيئات أخرى مختلفة، بمعنى أن أثر العرق سباق، يليه أثر امتزاج العرق بالدين فى بيئة ما، لينتج هذا التفاعل فكراً وثقافة.

لذلك، عندما يذكر العرق، تتداعى إلى الذهن، لاإرادياً، صور من التوصيفات ذات الطابع الديني والثقافي والفكري، وربما المهنة أيضاً والملبس ونوعية الغذاء. وقد تراكمت الاختلافات بين الأعراق عبر التاريخ، وتحولت إلى خلافات بعضها حاد الطابع، وبعضها مزمن، مما خلف حالة من التوجس بين الأعراق في عموم الكوكب.

إقرأ أيضاً: العشوائيات الديمقراطية

إنَّ الصراعات التي دارت وتدور فى كل أرجاء الدنيا، وإن حٌمِلت دعاوى هامشية كثيرة، فهى أولاً وأخيراً صراعات عرقية بامتياز، حتى لو استطاع أمراء الحروب الدهاة إخفاء هذا السبب الرئيس، وإطلاق توصيفات وتسميات أخرى عليها، أبرزها صفة القداسة، حتى يتم تقليص معارضي هذه الصراعات وتحييدهم. والحقيقة أنَّ الصراع من أجل حيازة الأرض والسلطة، وقهر بقية الأعراق والتسلط عليها، على ما أعلن الزعيم النازي أدولف هتلر صراحة ومن دون مواربة. لقد حدد الرجل بوضوح أعراقاً يجب إخضاعها للعرق الآري، وأعراقاً أخرى يجب إبادتها نهائياً، وأعراقاً ثالثة اعتبرها ناشئة، أي استناداً إلى نظرية النشوء والارتقاء حسب داروين، وتلك أعراق متدنية بنظره، يجب تسخيرها لخدمة العرق الأسمى. وظلت تطلعات استعباد تلك الأعراق والسيادة عليها مسيطرة لحقب طويلة في كل أرجاء الكوكب، وما زالت ترسباتها حاضرة في كثير من العقول والثقافات المتكلسة. أما بقية الزعماء، قبل وبعد هتلر، فقد التفوا حول القضية بمسميات لاستنهاض الهمم والحماسة، بدءاً من الأنجلوساكسون والفايكينغ، مروراً بالسلاجقة والتتار، والجاري اليوم على الساحة لا يمكن توصيفه إلا بأنه حرب عرقية بامتياز بين العرب واليهود.

وللتوجس العرقي مثال صارخ بين العرب والأكراد، حيث منعوا من إقامة دولة تمتلك كل مقومات الدولة من لغة وجغرافيا وتاريخ، بسبب التوجس العرقي المستدام منذ قرون بين العرب والكرد، وهو ما نجد أيضاً بين العرب والقبط والعرب والأمازيغ والعرب والأفارقة. وتحول التوجس العرقي إلى توجس قبلي عندما انفرط عقد الأعراق إلى قبائل, وانفرط معه عقد الأديان إلى مذاهب، وبعدما كان لكل عرق دين، أصبح لكل قبيلة متفرعة من عرق مذهب من نفس الدين، إمعاناً فى الاستقلالية والتوجس، واستعداداً لوضع المذهب الجديد فى المواجهة عند الضرورة، أي عند نشوب الصراع المستقبلي بين القبائل.

إقرأ أيضاً: العراق: قصف أميركي والخطر يتفاقم!

عندما قامت الحروب المسماة بالحروب الصليبية، كانت حرباً بين أعراق العرب والفرنجة، بهدف تصفية حسابات وتوجسات قديمة تمت بنفس النمط في الأندلس وصقلية ومالطة، مع هدف إضافي هو توسيع الدوقيات التي ضاقت على النبلاء والأمراء، وباتت في احتياج شديد إلى مساحات جديدة، وصار الصليب المظلوم الذي اتخذه الأوائل علامة اتضاع وتسامح ومحبة، علامة قهر وقتل وحرب. وحتى في الفتوحات الإسلامية، تم تقنين، وأحياناً منع، دخول "أغراب" في الدين الجديد لاعتبارات عرقية محضة.

في بلجيكا الهادئة، الصراع نائم بين الجرمان والسلتيك منذ قرون، وهم قبائل من نفس العرق والدين، وفي إيرلندا، كان المذهب الديني هو عنوان الصراع (القبلي) بين الكاثوليك والبروتستانت، ولا يزال الصراع بين الهنود الحمر والغزاة فى أميركا اللاتينية قائماً منذ قرون. وفي عالمنا العربى، يبدو مشهد التوجس العرقي والقبلي أكثر وضوحاً حيث تتقاتل الأعراق والقبائل داخل الأعراق، ولم تمنعها وحدة الوطن أو الدين أو المذهب من سفك الدماء في لبنان واليمن والصومال والسودان ومصر، وكلها في صراع مستدام على الأرض والسلطة والثروة.

إقرأ أيضاً: الرأس وليس أذرع الأخطبوط

إنَّه صراع الأعراق الأزلي، ويسقط القتلى وتسيل دماء الأبرياء ويظل السبب الرئيس المعلن الدين، ولا شيئ غير الدين، وسيظل التوجس العرقي والقبلي هو السبب الرئيس، مهما سيق من تبريرات وتغريرات، ليظل شريان الإمداد بالبشر مفتوح دائماً لتغذية الصراع، ولا تستطيع وسيلة ضمان سريانه إلا المبررات السماوية التى يساق بها البشر من مسلوبي الإرادة إلى هذا الأتون الأزلي.

لقد سمح الله بالاختلاف والتعدد: أعراق وإثنيات وعقائد ومذاهب، وكل يختار ويحترم اختيار الآخرين في ظل الحرية التي منحهم إياها الخالق ليحاسب كل حسب اختياراته، وكان رحيماً بالعباد ولم يك العباد رحماء بأنفسهم، وتوجسوا من بعضهم بعضاً، والنتيجة تقاتلوا أعراقاً وقبائل ومذاهب، وكل يدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، ويحاول دعاة الحروب الترويج لقدرية هذه الصراعات كأوامر إلهية لا راد لقضائها، لكنها في الحقيقة توجس أزلي مستدام، وصراعات بين أعراق وقبائل للسيطرة والقهر.