رفع الدعم عن المحروقات معضلة ينطق بها كل حديث، ويهرف بها كل لسان، في السودان، هذا البلد الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، معضلة تبعث في نفس هذا الشعب أسى عميماً وهماً مقيماً، أبطالها دعاة الرفع الذين يشنفون آذاننا بخلابة ألسنتهم، واستمالتهم الأسماع بحسن منطقهم، ويمضي هؤلاء البهاليل السادة الذين عقدوا العزم على استئصال دوحة العجز التي ألمّت باقتصاد هذه الديار، بعد أن فضح إخوتنا في الجنوب خواء الكلام عن الوحدة، وتهافت أصحابه، في اجترار الحديث المعاد الذي لم يحسم داءً أو يرتق فتقاً، أو يسدد ثلمة، لقد ضجرنا أيها النبلاء من تحمل سيب هذا الحديث، وزهدنا في عوارفه، لأنه قادنا إلى ما وصلنا إليه من صّيْلمُ صّلْقاء، وجدب مستشرٍ، فهل أمطرتنا الجرعة الأولى شآبيب فضلها؟ أو روت غُلّتنا بنمير مائها؟ كلا، لم يحدث شيء من هذا، فالمواطن الذي تتوخاه الدولة بالمكاره، وتستنهضه بالخطوب، غلى في الصبر، وأسهب في الثناء لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، متعللاً بالأماني بأن حكومته المشبل سوف تحفظ حقه، وترعى ذمامه، وها هي تجدد له الهبات، وتسني له الحباء، وتسبغ عليه النعمة، بعد أن اعتقدت مخطئة أنه قد عوفي من سطوة الأسقام، وسْلِم من تتابع الآلام، تخبره تلك الطائفة التي أتحفها الدهر ببهجات الفرح، وأراحها من حسرات الترح، أن مخايل الظفر والفلح قد لاحت، وروائح الرّوْح والفرج قد فاحت، ولكن المواطن الذي خادن تجاليد الليالي التي يشكو إليها ما طرأ عليه من تبدل، وما عصف به من أوصاب، أمسى لا يلتفت لتلك الوعود التي تنسجها أفواه من يتضاعف عليهم الذم، ويترادف عليهم التأنيب، بل تتمثل له أمنية يلوذ بها كلما حزبه أمر، أو اجتاحته شدة، أمنية استمدت ملامحها من ظلال واقعه المُزري الذي سئم فيه الوعود الجوفاء، والتدليس الفاحش، والعنت الدائم، أمنية تراود مخيلته، كلما أمعنت تلك الفئات المهفهفة في بسط أطروحاتها المتداعية، أو يكتوى كاهله بحمل الأعباء الثقال، أمنية يجد نفسه فيها قد أخذ من كل شيء بطرف، وأصبح مثالاً يعجُ بالشواهد، وأنموذجاً يكتظ بالعبر، لأنه لم يحذق ذكر مخازي الإنقاذ، والنظام الهش المتداعي الذي جاء بعدها،لم يرهق المواطن البسيط نفسه بذم تلك الأنظمة وثلبها وتحقيرها، بل تسلل خارج أسوار القطر الذي تتناحر فيه الأخياف من أبناء الوطن الواحد، ممزقاً أشجان الاغتراب بما يضفي على نفسه هالات من الأضواء، وأنفاساً من الأزهار.
إقرأ أيضاً: المفاوضات.. ما أشبه اليوم بالبارحة
تهافت العقول الجزلة والسواعد المجدولة، على الهجرة، يؤكد للأذهان النابهة والبصائر النافذة، أن نَفْاق البضاعة أدعى للإنتاج كما يقول الدكتور طه حسين، وقد انجلت غاشية الحزمة الأولى من رفع الدعم عن المحروقات التي لم يتمخض عنها إلا هجرة الكوادر الطبية، وأساتذة الجامعات والدماء الحارة التي تعول عليها البلدان في نوازعها الوطنية من رقي وحماية، وها هو البحر الذي لا ينزح والغمر الذي لا يسبر، وزير اقتصادنا الهمام يحدثنا عن هذه الضائقة التي ضقنا منها ذرعاً، لطول أخذها بمخناقنا نحن البؤساء، مبشراً في ألق واغتباط بما يترتب عليها من غرس مثمر، ومكارم نامية، ليت شعري من يبقى في هذا الوطن إذا انتظم لوزير الاقتصاد ما حاول، واتسق له ما أمل.
التعليقات