سواء اعتبرها البعض تطوراً خطيراً وتصعيداً غير متوقع، أو عدها البعض الآخر تحصيل حاصل ورد فعل طبيعياً ومتوقعاً على فعل سابق له، فإنَّ الضربات الإيرانية المركزة والدقيقة للكيان الصهيوني بعشرات الطائرات المسيرة والصواريخ البالستية وصواريخ كروز، أفرزت وبلورت حقائق جديدة، لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهلها في أي ترتيبات إقليمية - أو حتى دولية - أو في أي قراءات استشرافية لمسارات الصراع، وطبيعة موازين القوى ومعادلاتها في المنطقة.

ومن أهم وأبرز تلك الحقائق تحطم نظرية أن الكيان الصهيوني يمثل القوة الأكبر التي لا يمكن لها أن تقهر أو تكسر أو تهزم. هذه النظرية الزائفة الوهمية التي تشكلت وترسخت في أذهان الكثيرين بسبب الروح الانهزامية لأغلب الأنظمة والحكومات العربية، وهرولتها نحو إبرام اتفاقيات التطبيع والاستسلام مع ذلك الكيان بدلاً من توظيف واستثمار إمكانياتها وقدراتها وطاقاتها المادية والبشرية الهائلة لمواجهته.

وطبيعي أن تفضي مسيرة التطبيع المذل التي انطلقت قبل خمسة وأربعين عاماً من القاهرة، مروراً بعمان والرباط والخرطوم، وصولا إلى المنامة وأبو ظبي، إلى استفحال وتمدد وعنجهية الكيان الصهيوني في مقابل ضعف وخواء خصومه وأعدائه الذين تحولوا إلى أصدقاء وحلفاء له.

وإذا كان الكيان الصهيوني قد تعرض إلى هزائم وانكسارات خلال العقود الأربعة أو الخمسة المنصرمة، فإنها تحققت من خلال المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله، وكذلك المقاومة الفلسطينية المتمثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي.

وهذا ما تقوله وتتحدث به الأوساط والمحافل السياسية والأمنية ووسائل الإعلام الاسرائيلية بكل وضوح، أكثر مما يتحدث به خصومها وأعداؤها في داخل إيران وخارجها.

وناهيك عن الخسائر الاقتصادية، والتصدعات السياسية، والتداعيات النفسية والمعنوية للكيان الصهيوني جراء ما حصل ليلة الرابع عشر من نيسان (أبريل) الجاري، فإن عدداً من كبار الساسة والمسؤولين في حكومة بنيامين نتنياهو لم يتمكنوا من إخفاء قلقهم الكبير حيال التهديدات الوجودية الحقيقية لكيانهم بعد خمسة وسبعين عاماً من تأسيسه.

في قبال ذلك، أثبتت إيران أنها لاعب مؤثر وفاعل وقوي، وتمتلك القدرة على توجيه مسارات الأمور والإمساك بزمام المبادرة، وفرض خيارات الردع المناسبة في المكان والزمان المناسبين، وأكبر وأوضح وأبلغ دليل على ذلك، هو أن كل حلفاء وأصدقاء الكيان الصهيوني اكتفوا بدعم وإسناد محدود ومقيد له، وتجنبوا توسيع ميادين المواجهة لصالحه، لإدراكهم ما يمكن أن يترتب عليه مثل ذلك الإجراء من تبعات وانعكاسات سلبية خطيرة عليهم، ارتباطاً بمكانة إيران وعوامل وأدوات قوتها من جانب، والمصالح السياسية والاقتصادية والأمنية المتشابكة معها، فضلاً عن طبيعة تحالفاتها الدولية مع لاعبين كبار ومؤثرين مثل روسيا والصين، وكذلك محوريتها وإدارتها لجبهة المقاومة الممتدة من لبنان مروراً باليمن وفلسطين وسوريا والعراق، وربما مساحات وميادين أخرى.

الأمر الآخر، أو الحقيقة الاخرى، تتمثل في ان ايران خاضت نوعاً جديداً من الحروب يمكن تسميته بـ"الحرب النوعية"، التي تتميز بأنها سريعة وخاطفة وتعتمد على التقنيات العلمية والتكنولوجية المتطورة مع العنصر البشري النوعي القليل، دون الحاجة إلى أعداد كبيرة من القطعات العسكرية، وتجنب أكبر قدر من الخسائر البشرية وكذلك المادية.

قد يبدو للبعض أنَّ الخسائر التي تكبدها الكيان الصهيوني لا تتناسب مع العدد الكبير للطائرات المسيّرة والصواريخ التي أطلقتها إيران باتجاهه، وهذا أمر طبيعي لم ينظر إلى صورة الحدث نظرة إجمالية عابرة دون التعمق بالتفاصيل والجزئيات، والإحاطة بجملة من القضايا الفنية التي قد لا يفهمهما بشكل دقيق إلا المتخصصون، فضلاً عن ذلك فإن بعضاً من المعطيات تتطلب مزيداً من الوقت لتتكشف وتتوضح لعموم الرأي العام، ومع ذلك فان ما تحدثت به وسائل الاعلام الاسرائيلية والأميركية والغربية عن الخسائر المادية التي تكبدها الكيان الصهيوني لصد الضربات الإيرانية والتقليل من آثارها، بلغت أرقاماً صادمة، تجاوزت المليار دولار في غضون ساعات قلائل، ناهيك عن الاضطرابات والاهتزازات السياسية والامنية والنفسية الهائلة التي عاشها الكيان قبل وبعد الضربات.

ليس هذا فحسب، بل إنَّ القيود والحواجز التي كسرتها إيران، والتصورات والانطباعات المترسخة طيلة عقود من الزمن عن إسرائيل التي لا تهزم وهي المدعومة بقوة من الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي، والمحاطة بأنظمة سياسية عربية خانعة وخاضعة وذليلة ومنهزمة، أكدت أنها - أي إيران - تمثل رقماً صعباً للغاية لا يساهم في صياغة المعادلات والتوازنات الاقليمية، بل انه هو الذي يحدد سيرها ومساراتها. واليوم فإن الكيان الصهيوني إذا قرر أن يرد، فإنه لابد له ان يفكر ألف مرة قبل ان يقدم على أي خطوة، ولاشك أنه حينما تحثه الدول السبع الكبرى على تجنب الرد، فهذا ليس حباً بإيران أو حرصاً عليها، وإنما خوفاً من ردود أفعالها الانتقامية، وهي نفس تقديرات بعض الدول العربية التي ترتبط بعلاقات وطيدة مع تل أبيب، الا انها حرصت على ان تبقى بمنأى عن ساحة المواجهة المباشرة بين الطرفين، لانها تعرف وتدرك تماما حجم وتأثير ايران، فضلا عن مصالحها الكبيرة معها.

وارتباطاً بقوة ايران وتأثيرها، واتضاح ذلك بدرجة أكبر بعد ضرباتها النوعية الانتقامية للكيان الصهيوني رداً على قصفه القنصلية الايرانية في العاصمة السورية دمشق قبل أسبوعين، فإن قوة وتأثير محور - أو جبهة - المقاومة ستتنامى وتتسع، لتساهم بطريقة أو بأخرى في بلورة وصياغة الحقائق والمعادلات الجديدة في المنطقة.

وكل ذلك، من الطبيعي والمنطقي ان ينعكس وينسحب في تأثيراته واسقاطاته على علاقات طهران بمحيطها الاقليمي والفضاء الدولي، ولا بد أن يحرك ملفها النووي بإيقاع ومسار مختلف، ولابد ان يحلحل الملفات الاقليمية الشائكة، ولابد ان يرغم الكثير من الاطراف على اعادة ترتيب اوراقها، ومراجعة مواقفها، وتصحيح او تعديل حساباتها.