دونالد ترامب من الرؤساء الأميركيين الذين لا يخافون أحداً، ولا يبالون بالدولة العميقة في الولايات المتحدة، ولا يكترثون لنقد الصحافة كعادة الرؤساء الذين يتخرجون من رحم الحزب الجمهوري، وهو يكاد يكون الرئيس الأميركي الوحيد الأكثر صراحة والأكثر جدية والأكثر تحدياً وصرامة، وعندما يصرح بأن العالم قد يتجه نحو حرب عالمية ثالثة، فهو يعني ما يقول.
للتوضيح أكثر، فلنعرج على بعض الحقائق التأريخية في السياسية الخارجية الأميركية خلال فترات حكم الرؤساء الديمقراطيين الذين ينتمي إليهم الرئيس الحالي جو بايدن. في كل مرحلة يستحوذ فيها الحزب الديمقراطي على الحكم، نلاحظ تودداً غير طبيعي من الحكومة الأميركية تجاه الدول المعادية لأميركا والمعادية للديمقراطية، لا يستثني حتى المنظمات الإرهابية. في الوقت ذاته، تقوم الإدارة الأميركية بالتنصل من التزاماتها تجاه أصدقائها، وتتمرد على حلفائها، ما يحدث إرباكاً كبيراً في العلاقات الدولية، ما يترتب عليه خسارة معظم دول العالم، صديقة لأميركا أم عدوة لها، ثقتها بالسياسة الأميركية وانتفاء احترامها لسياسات الحكومة الأميركية.
ما تقدم يظهر بوضوح خلال فترات حكم الديمقراطيين، والغريب أن ليس ثمة من تفسير واضح لهذا السلوك الغريب في السياسة الأميركية، اللهم إلا أنَّ الديمقراطيين يخضعون بشكل مطلق للدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية، والتي بدورها تقود السياسة الأميركية نحو المهالك. والمعروف عالمياً أنَّ الدولة العميقة في جميع أنحاء العالم تتألف من عوائل معدودة ومتنفذة وخفية، تمتلك قدرات عالية للتأثير على قيادات البلد، وتخدم مصالحها الخاصة ولو أتت على حساب مصلحة الدولة.
يعلم ترامب هذه الحقيقة، ويعرف أنَّ الحرب الروسية الأوكرانية تتواصل بمباركة الدولة العميقة، ومثلها حرب غزة، لذلك كان تصريحه واضحاً وصريحاً منذ اليوم الأول للحرب الروسية ضد أوكرانيا، حين قال إنه لو كان في السلطة لما وقعت الحرب، لأنه هو، وكذلك جميع قادة الحزب الجمهوري، لا يخضعون للدولة العميقة. ويتضمن كلام ترامب دلالات قوية على أنَّ تظاهرات الجامعات الأميركية أعمال تخريبية، وهو يتهم بشكل غير مباشر الحزب الديمقراطي بافتعال هذه التظاهرات الطلابية للتغطية على سوء أفعال الحزب في السياسة الخارجية، ولا أحد يستبعد أن التظاهرات الطلابية هي من تدبير الديمقراطيين أنفسهم، والدليل على ذلك هو أن معظم الأساتذة الجامعيين، بل الغالبية المطلقة منهم، يتبعون الحزب الديمقراطي.
تسعى الدولة العميقة في الولايات المتحدة والدول العميقة في معظم دول العالم إلى إحداث المزيد من الحروب والدمار، ولا يتردد القيمون عليها في الدفع نحو إشعال أكثر من حرب عالمية، بل حروب عالمية في كل زمان وكل مكان، لأنَّ ديمومة مكانتهم تقتضي ذلك. لهذا السبب، فإنَّ ترامب يراقب الانصياع المطلق للإدارة الأميركية الحالية لإرادة الدولة العميقة، ويندفع ليصرخ قائلاً ما يجب أن يقوله كمسؤول عارف، محذراً العالم والشعب الأميركي من خطر بقاء الديمقراطيين في السلطة، وأظن أنَّ جميع العقلاء يتفقون مع ترامب بأن فوز الديمقراطيين في الانتخابات القادمة يعني حرباً عالمية ثالثة لا محالة ستحرق ثلثي الكرة الأرضية وتقتل المليارات من البشر. وليس من الصواب تجاهل تحذيرات ترامب، فهو أعلم بما يدور في أروقة الإدارة الأميركية.
إقرأ أيضاً: الكورد الفيلية في الذاكرة
قد يذهب البعض إلى تفسير كلام ترامب على إنه يأتي ضمن الحملة الانتخابية لكسب ود الناخب الأميركي، وكذلك كسب ود الرأي العام العالمي، وقد يحتمل هذا التفسير بعض الصحة، لكن الأصح أن ترامب ذكر الحقيقة. وانظروا إلى ما يؤكد صدق كلامه: عندما اندلعت حرب غزة قبل أشهر، وبالتحديد في الأيام الأولى للحرب، أعلن بايدن دعمه المطلق لإسرائيل، وقال إنه سيتعاون مع الحكومة الإسرائيلية للعمل على اجتثاث الإرهاب والقضاء على حركة حماس وداعميها. والآن، بعد مرور كل هذه المدة، ها هو بايدن نفسه يطالب إسرائيل بعدم القضاء على حماس بعد أن تم تدمير كل شيء في غزة.
إقرأ أيضاً: من يكتب المقالات؟
فماذا سيعني بقاء حماس؟ ظاهرتان غريبتان جداً ومترابطتان، هما التظاهرات الطلابية في الجامعات الأميركية والضغط الأميركي على الحكومة الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، وكأن لسان حال الإدارة الأميركية يقول لإسرائيل سنزيد من غضب الجامعات إذا لم تستجيبوا لمطالب الإدارة الأميركية. هذه الفعالية في تحريك طلاب الجامعات ودفعهم نحو التظاهر، كما يبدو لي، هي امتثال الديمقراطيين لنظرية الفيلسوف الأميركي الألماني الأصل هربرت ماركيوس، صاحب كتاب الإنسان ذو البعد الواحد؛ فعندما طرح ماركيوس نظريته قبل أكثر من ستين عاماً، استبشر بأنَّ الحركات الطلابية في المستقبل هي صاحبة القرار الأخير في كل شيء، وقد وجد الديمقراطيون ضالتهم في هذه النظرية، لأنَّ ماركيوس يلتقي مع الديمقراطيين في الفكر اليساري، ورغم أنه رحل عن عالمنا قبل حوالى 45 عاماً، ما زالت أفكاره تحرك الحركات اليسارية في العالم ومن ضمنها الحزب الديمقراطي الأميركي اليساري التوجه، لذلك، فإنَّ دفعهم للانتفضات الطلابية يفسر على هذا الوجه، في مفارقة تتناقض مع الأخلاق والقيم الأميركية والإنسانية، وهي لنظرة غريبة للأمور ليس لها ما يبررها. فلماذا سمحتم طوال أشهر بقتل وجرح وتهجير عشرات الآلاف من الأبرياء، والآن تقولون كفى قتلاً؟ هذه هي السياسة التي كان ترامب يحذر منها، وكان يسميها خبثاً سياسياً، وهي ما أثار حفيظته وحفيظة كل متابع للأحداث، إذ أننا جميعاً نبحر في مركب واحد، وهذا المركب قد يغرق في أيّ لحظة.
التعليقات