الكورد الفيلية شعب وأمة ذات ثقافة وعادات ولغة وتأريخ وخصوصية منفردة، وهم أكبر من أن يكونوا مجرد مكون أو شريحة. وما عاشه الكورد الفيلية من مصائب وويلات يطرح علامات استفهام متعدّدة، قد نحتاج إلى عقود زمنية لفهمها بشكل واضح.
لقد وقع كل ذلك في زمن النظام العراقي السابق، الذي يعلم يقيناً أنَّ الفيليين هم من القومية الكوردية، لكنهم يسكنون بعيداً عن كوردستان في مدن يكثر فيها العرب. والتساؤل هنا لماذا لم يعامل النظام السابق الفيليين كأقوام من الكورد ويشملهم بما شمل الكورد من تعامل سلبي أو إيجابي، أو يرحلهم إلى أماكن تواجد الكورد بدل طردهم إلى إيران؟ هنا علامة استفهام أولى.
المسألة الثانية هي التسفير أو التهجير، وهي حالة تحدث في معظم الدول المتجاورة في العالم، حيث يتم تهجير الداخلين إلى البلد من الدولة الجارة بشكل غير شرعي أو ترحيلهم، خاصة في الأزمات السياسية أو الاقتصادية، مع احتفاظ المهجر أو المسفر بكامل أوراقه الثبوتية وأمواله وممتلكاته، أو يتم الحجز عليه في حالة المخالفات القانونية، لكن أن يتم تهجير ابن البلد وإلصاق صفة التبعية به عنوة، ومصادرة أوراقه الثبوتية وأمواله المنقولة وغير المنقولة، واحتجاز شباب العوائل المسفرة ومن ثم قتلهم وتهجير كبار السن والنساء والأطفال بشكل مهين ومخالف لكل الأعراف والقوانين الدولية والإنسانية، فهذا بالضبط يعد نوعاً من أنواع الإبادة التي تمت بوضح النهار، وفي غفلة من الزمن، بحق هذا الشعب المظلوم، ومن دون أن يكون للفيليين من مدافع لا على مستوى دولة ولا على مستوى منظمات دولية أو حتى منظمات مدنية أو إنسانية.
والتساؤل هنا لماذا تعرض الفيليون لحملات إبادة؟ من يرد السبب إلى أنهم من الشيعة مخطىء، فهؤلاء العرب الشيعة كانوا يتنعمون كأخوانهم السنة بالأمان والخير والمكرمات من القائد صدام حسين، إلا من وقف بوجه النظام فقد تحمل العواقب الوخيمة لموقفه، مع العلم أنَّ غالبية الفيليين لم يك لهم من ميول أو التزامات دينية، فكانوا محافظين ومنفتحين.
إقرأ أيضاً: الترابط بين حرب أوكرانيا والحرب في منطقتنا
بعد هذه التساؤلات الكثيرة، نجد أنفسنا أمام هذه الحقائق؛ الكورد الفيلية بالنسبة إلى الحكومات السابقة وحكومة حزب البعث القومي العربي بالتحديد، كانوا يشكلون هاجساً كبيراً، فأعدادهم في بغداد وبعض المدن الوسطى كانت كبيرة جداً، وتشكل نسبة لا يستهان بها قياساً بمجمل سكان العاصمة، وبعض المدن الأخرى، وكانت الحكومة تنظر إليهم كالقنبلة الموقوتة وسط بغداد، وأي استفتاء مستقبلي قد يكون للكورد فيه الغلبة، فتصبح بغداد، حالها حال المدن الكوردية، في خطر، وقد تتحول إلى جزء من كوردستان مستقبلاً، لتصبح كوردستان نصف العراق، هذا من الجانب القومي (النظرة القومية للكورد)؛ أما بالنسبة إلى النظرة الاجتماعية والسياسية، فإنَّ الفيليين أظهروا إبداعات ومهارات جعلت الدولة تشعر بالخوف والقلق على مستقبلها تجاههم، فخلال فترة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، برزت موجة من الفنانين والشعراء والأدباء والمثقفين والرياضين والعلماء والأساتذة والصحفيين الفيليين، إضافة إلى التجار في الشورجة (مركز التجارة في العراق)، استطاعوا التسيد والهيمنة على معظم نشاطات الحياة الثقافية والفنية والرياضية والتجارية والعلمية، فاستشعرت الدولة بخطر أن يسيطر الفيليون على الدولة خلال فترة زمنية قصيرة. وكما هو معروف للجميع، فإنَّ حزب البعث حزب قومي عربي، والكورد الفيليون ليسوا عرباً، فكان لا بدَّ من إيجاد حل ينهي وجود الفيليين ويُبعد تأثيرهم عن وسط العراق، ويجعل من عودتهم إلى نفس المستوى من القوة والنشاط أمراً مستحيلاً، فجرى العمل بالتسفير واعتقال الشباب الفيلي وتغييبهم ثم قتلهم، فضلاً عن جملة قرارات أخرى لمجلس قيادة الثورة آنذاك، منها إعطاء المكافأة لبعض شيوخ عشائر الجنوب الذين يستطيعون تحويل العوائل الفيلية من أصحاب الأوراق الثبوتية الدامغة، إلى عرب ضمن عشائرهم، أي استعرابهم، وإعطاء مكافأة لكل عربي يقوم بتطليق زوجته الفيلية، أو لكل عربية تطلب الطلاق من زوجها الفيلي، وتحول الأمر إلى مسح للهوية الفيلية ومحوها من العراق، وهي عملية إبادة حقيقية لشعب حي، فالقضية ليست قضية تبعية لإيران كما قد يظنها البعض، ولا قضية مذهب، بل قضية إلغاء وجود شعب يمثل تهديداً لمستقبل البلد كما كانوا يعتقدون، ولا أستطيع تسميتها بغير (إبادة الشعب الفيلي).
إقرأ أيضاً: الصحيحة والجرباء
عندما ننظر إلى الوضع الفيلي من هذه الزاوية وبهذه الصورة، ستكون لنا القدرة على فهم الواقع بشكل أصحّ، وإعادة ترتيب الواقع بحيث نتفادى الوقوع في نفس الخطأ مستقبلاً. عندما يتوحد الفيليون، ويبعدون أنفسهم عن كل الولاءات الحزبية غير الكوردية الفيلية، سيستعيدون بسرعة مكانتهم الحقيقيَّة، ويعودون إلى سابق عهدهم، وسيظهر معدنهم الحقيقي الثمين لكل شعوب الأرض، والذي سيرفع من شأنهم وشأن الوسط الذي يعيشون فيه. فالكورد الفيلية أكثر سكان العراق المتنوع قدرة على التآخي مع جميع القوميات والأديان والطوائف الأخرى. هذه هي الحقيقة المخفية عن الكل!
التعليقات