لا أحد يمكن له في هذا الوطن، بل في العالم العربي بأسره، والعزيز علينا جميعاً، أن ينكر التناقض الكبير والصارخ بين الأقوال والأفعال، والذي أمسى السمة الغالبة التي تطبع ثقافة المجتمعات العربية.

تلك المجتمعات الحاضنة لفئات اجتماعية متنوعة، ويتزعمها السياسي الذي "يدخل" و"يخرج" في الكلام بصفة دورية، إن لم نقل مسترسلة باستمرار، بدون حرج، مبرراً ذلك بمتطلبات المرحلة، مروراً بالمستثمر الذي أصبح يقدّس المال لدرجة الجنون، والدفع بالعودة إلى العصور الوسطى والحجرية، وذلك بتحويل العلاقة بين الأجراء وأرباب العمل إلى علاقة مبنية على الخوف الدائم والابتزاز وغير ذلك، ناهيك عن التهرب الضريبي الذي ينتج عنه ضياع الملايير على مداخيل الدولة، وانتهاءً بباقي أفراد المجتمع الذين ينهمكون في ثقافة مليئة بالحقد الاجتماعي والحسد السيكولوجي، والغيرة المدمرة للأشخاص والأسر، وعرقلة النجاح للناجحين، وتدعيم ومساندة تفاهة الفاشلين، وزد على ذلك كثيراً.

لكن بالرغم من ذلك يبقى التعميم خاطئاً مادام الشرفاء موجودين في كل المهن والوظائف والأفراد والتجمعات السكانية وفي كل مكان وزمان.

بيد أن التناقض الغريب والعجيب هو عندما تُطرح مسألة الأغلبية، والتمسك بما يسمى برأي عام محرّك للمياه الراكدة، في الكثير من المجالات، كرأي ثابت صادق، له ماله وعليه ما عليه. بل هناك من لا يحلو له الحديث عن أغلبية تابعة، فيعطي لها الشرعية الدائمة والمزيفة واقعياً، لمجابهة المعارضين والفاضحين للتجاوزات المختلفة، سواء كانت تلك الانحرافات مالية أو منصبية أو أخلاقية قيمية.

ومن تناقضات ما يسمى "رأي عام الأغلبية"، نذكر سبيل المثال لا الحصر بعض الغرائب في هذا المضمار، أو نلخصها فيما يلي:

الأغلبية تُقبل على التفاعل مع التفاهة بكثرة وتمر مرور الكرام على إبداعات أهل المعرفة والعلم.

الأغلبية تتفاعل مع من يمتلك سلطة ما، أو جاهاً ما أو مقرباً من شخصية عمومية، وتتنكر له عند سماعها بفقدان أحد هذه الركائز.

الأغلبية تدعو للنظافة، وحين ننظر لواقع حالها نجد أن القمامة لا توضع في مكانها الصحيح، ولا يتم إخراجها في وقتها المحدد.

الأغلبية تنساق للمظاهر الخداعة ولا تبالي بجوهر الأفكار وقلوب الناس الطيبين مهما كان انتماؤهم الاجتماعي.

الأغلبية تنتقد الآخرين عند الوقوع في هفوات ما، وترفض من ينتقدها.

الأغلبية تنساق وراء التهييج السريع لوسائل الإعلام وتنسى بسُرعة المآسي التاريخية التي تجرعت مرارتها عبر سنين من الزمن.

الأغلبية غارقة في وهم الذاتية وأفعالها وسلوكياتها متعددة الأبعاد في وادٍ، أما شعاراتها وأقوالها ففي وادٍ عميق آخر... وزد على ذلك كثيراً.

لذا، فلا يُعقل بتاتاً القول إن المقارنة ممكنة بين أنفسنا وشعوب تقول ما تفعل، فنحن للأسف نبدع في تبرير التناقض بين الأقوال والأفعال، في أفكارنا وسلوكياتنا المتناقضة والبدائية في بعض الأحيان، والتي تطبع الشخصية الاجتماعية لمجتمع لا زال تائهاً في ثقافة الإنكار، والتحليل والتحريم حسب الأهواء والمناصب والأيديولوجيات المتنوعة، ونقدم صيغة وهمية تعطي لأنفسنا تسمية ملخصها "نحن نمثل رأياً عاماً".

تلك هي مقولة الدخول والخروج في الكلام!