منذ أول انتخابات عراقية بعد سقوط النظام عام 2003، يتكرر المشهد ذاته: وعود ضخمة، حملات انتخابية صاخبة، تحالفات تتبدّل كألوان المهرجانات، وصناديق اقتراع تُفتح وكأنها بوابة خلاص، لكنها سرعان ما تتحول إلى مرآة تعكس عجز النظام السياسي نفسه. كل دورة انتخابية في العراق تبدو أشبه برقصة «سامبا» سياسية، تُدار بإيقاع سريع ومظهرٍ احتفالي، بينما يبقى الإيقاع الحقيقي للدولة بطيئاً ومترنحاً تحت ثقل الفساد والانقسام وانعدام الثقة.
الأرقام وحدها كافية لتروي حكاية هذا الإيقاع المتعب. ففي انتخابات 2005، التي كانت الأولى بعد الدستور الجديد، شارك ما يقارب 12.4 مليون ناخب من أصل 15.6 مليون مسجل، أي بنسبة تقارب 80%، وفق بيانات ElectionGuide. يومها كان العراقيون يعتقدون أن صناديق الاقتراع قادرة على دفن الماضي وفتح صفحة ديمقراطية جديدة. لكن تلك الحماسة لم تصمد طويلاً. فبعد خمس سنوات فقط، في انتخابات 2010، تراجعت المشاركة إلى نحو 60%. وفي 2014، بقيت النسبة حول 60%، لتصل في انتخابات 2018 إلى أقل من 45%، ثم تهبط في انتخابات 2021 إلى نحو 43% فقط، بحسب المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وتقارير الأمم المتحدة والجارديان التي وصفت الإقبال بأنه “الأدنى منذ 2003”.
هذا التراجع لا يمكن تفسيره بعاملٍ واحد، بل هو نتاج عقدين من الخيبات السياسية. فالمواطن العراقي، الذي خرج مرةً ليختار التغيير، وجد نفسه بعد كل اقتراع أمام وجوهٍ قديمة تتبادل المقاعد تحت أسماء جديدة. الوعود تتكرر، الخطابات تتغير، لكن النتائج تبقى على حالها: بطالة مرتفعة، خدمات غائبة، محاصصة متجذرة، وأموال عامة تذوب بين أنياب الأحزاب. لذلك لم يعد العزوف عن التصويت سلوكاً سلبياً، بل صار شكلًا من أشكال الاحتجاج الصامت.
الأحزاب الكبرى التي سيطرت على المشهد منذ 2003 ما زالت تمتلك مفاتيح الدولة، مستندةً إلى شبكةٍ معقدة من الولاءات الطائفية والاقتصادية. قانون الانتخابات تغيّر أكثر من مرة، من نظام القوائم المغلقة إلى المفتوحة، ومن الدوائر الواسعة إلى المتعددة، لكن جوهر اللعبة لم يتغير، لأن من يضع القوانين هم أنفسهم المستفيدون منها. تقرير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى عام 2024 أشار بوضوح إلى أن انخفاض المشاركة الانتخابية يمثل "مشكلة شرعية خطيرة للنظام السياسي العراقي"، إذ لم تعد الانتخابات وسيلة لتجديد الثقة، بل لإعادة تدويرها.
في الوقت ذاته، لم يعد المال السياسي ولا النفوذ العشائري ولا التلاعب بالمناصب بعيداً عن صناديق الاقتراع. فبحسب تقارير هيومن رايتس ووتش لعام 2024، ما زالت عمليات شراء الأصوات والترهيب والضغط الوظيفي تمارس في العديد من المحافظات. كما أن التفاوت الكبير بين المحافظات يؤكد عمق الأزمة .
الانتخابات القادمة، إذا ما أُجريت في موعدها، ستكون اختباراً حقيقياً لمدى قدرة العراق على الخروج من هذا الدوران الممل. فهل يمكن أن تتحول من “رقصة سامبا” إلى خطوة جادة نحو إصلاح الدستور وتفعيله؟ الدستور العراقي، الذي كُتب عام 2005 بوصفه عقداً اجتماعياً يضمن العدالة والمواطنة والمساواة، ظلّ طوال عقدين معطلاً في كثير من مواده الجوهرية. المادة 140 الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، والمادة 65 المتعلقة بتأسيس مجلس الاتحاد، والمادة 106 الخاصة بتوزيع الواردات الاتحادية، كلها لم تُنفذ حتى اليوم. ومع كل دورة انتخابية، تُطرح هذه المواد في الحملات كعناوين براقة، ثم تُنسى فور إعلان النتائج.
إذا أرادت الانتخابات المقبلة أن تكون أكثر من مجرد عرضٍ شكلي، فعلى القوى السياسية أن تثبت أن العملية ليست وسيلة لتجميل النظام، بل أداة لتصحيح مساره. ويتحقق ذلك فقط من خلال قانون انتخابي عادل، وهيئة مستقلة بحق، ورقابة محلية ودولية شفافة، وضمان مشاركة الشباب والنساء والفئات المهمشة الذين يشكّلون غالبية المجتمع لكنهم الأقل تمثيلاً في البرلمان. كما يجب ربط العملية الانتخابية مباشرة بتطبيق الدستور، عبر برنامج حكومي واضح يتعهد بتنفيذ مواده المعطلة، لا الاكتفاء بترديدها في الشعارات.
العراقيون تعبوا من الرقص في دوامة لا نهاية لها. يريدون انتخابات تعيد للدولة هيبتها وللدستور روحه، لا مجرد مهرجانٍ آخر للولاءات والصفقات. فكل ورقة اقتراعٍ لا تُترجم إلى عدالةٍ في الثروة، ومساواةٍ في الحقوق، وتطبيقٍ فعليٍ لبنود الدستور، تبقى مجرد إيقاع في رقصة سامبا لا تُغيّر شيئاً من الواقع. والانتخابات القادمة، إن أرادت أن تخرج من هذا النمط، يجب أن تكون لحظة مصارحة لا احتفال، وخطوة إصلاح لا تكرار. فالديمقراطية ليست كرنفالاً انتخابياً، بل مسؤولية وطنية تبدأ من الاعتراف بأن التغيير لا يصنعه الرقص، بل الإرادة.
- آخر تحديث :














التعليقات