ما نعرفه قطرة ولكن ما لا نعرفه محيط |
بعد مرور أعوام وصرف مبالغ فائقة التصور، ربما يكون العلماء قد توصلوا الى إيجاد اللبنة التي أفلتت منهم بعد اكتشافهم لـ 12 لبنة من لبنات بناء الطبيعة وهي بوزون هيغز. ولكن ما هي التغيرات التي ستطرأ على عالم الفيزياء في حال تم ذلك.
لندن: اكتشف الفيزيائيون حتى الآن 12 لبنة من لبنات بناء الطبيعة. والآن بعد 50 عاما من البحث ربما توصلوا الى اكتشاف اللبنة التي أفلتت منهم طيلة هذه السنوات، أي بوزون هيغز. ولكن إذا تأكد حقا اكتشاف ما يُسمى جسيم الله هل يعني هذا نهاية الفيزياء؟
كانت المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية عقدت مؤخرا ندوة في جنيف كرستها للتقدم الذي تحقق في البحث عن بوزون هيغز. ولكن ما أُعلن في الندوة بعد فترة من الترقب والأعصاب المشدودة لم يكن قاطعا. فمن جهة حدثت تطورات جديدة في البحث عن جسيم هيغز ومن الجائز ان العلماء تمكنوا من رصد بوزن يعادل نحو 125 ذرة هيدروجين. ومن الجهة الأخرى لم يكن هناك دليل ملموس على اكتشاف الجسيم بل مؤشرات الى وجوده لكنها مؤشرات شيقة جدا، كما دأب مدير المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية رولف هوير على القول المرة تلو الأخرى.
وكان رد فعل الحاضرين متأرجحا هو الآخر. إذ هتف فيزيائي خلال النقاش الذي جرى في الندوة معبرا عن الشكر quot;على هذه الهدية اللطيفةquot; بمناسبة اعياد الميلاد والسنة الجديدة. ولكن آخر تابع وقائع الندوة على حاسوبه المحمول خارج القاعة التي غصت بالحضور وصف النتائج بأنها quot;نصف مخبوزةquot;.
وبعد انفاق 3 مليارات يورو للبحث عن جسيم، لا بد ان يكون في هذا الجسيم ما يستحق عناء البحث عنه والإنفاق عليه. ولكن زيارة الى شقة الرجل الذي أُطلق اسمه على الجسيم في ادنبرة تبين تواضعه. فان بيتر هيغز رجل خجول في الثانية والثمانين من العمر ذو شعر أشيب وابتسامة مترددة، كما تصفه مجلة شبيغل اونلاين. وبعبارات قصيرة متعثرة يروي كيف استحوذت عليه فكرة الجسيم المفقود. ويتذكر بوضوح انه كان يقلب مجلات علمية في المكتبة عندما خطرت له الفكرة. ويتذكر اليوم ايضا. كان ذلك في 16 تموز/يوليو 1964 ، قبل نحو 50 سنة.
ومن حيث الجوهر فان هيغز طلع بحيلة رياضية بسيطة ولكنها تبقى ذات أهمية بالغة لعلماء الفيزياء حتى هذا اليوم لأنها ساعدتهم في فهم ظاهرة الكتلة.
ومن دون حيلة هيغز كانت المعادلات في فيزياء الجسيمات مملة ورتيبة تصف كونا عامرا بالجسيمات حصرا من دون كتلة. ولكن من دون كتلة لا تنشأ نجوم ولا كواكب، ولا وجود للبشر في عالم كهذا. وبحيلة هيغز توفرت للعلماء أداة يصلِّحون بها معادلاتهم، وبها تمكنوا من صوغ quot;النموذج المعياريquot; للمادة الذي يمثل النظرة العالمية الى الفيزياء حتى اليوم. وكل ما على العلماء ان يفعلوه هو ان يثبتوا وجود جسيم هيغز.
وليس جديدا على الفيزياء ان تكتشف جسيما على الورق اولا ثم في المختبر لاحقا. وفي حالة المادة الضد مثلا ، مرت اربع سنوات بين الفكرة والاكتشاف، واحتاج العلماء الى 20 عاما لاكتشاف النيوترينو. ولكن الزمن الفاصل بين الفكرة والاكتشاف لم يكن طويلا كما هو في حالة بوزون هيغز حتى اصبح البحث عنه أطول مطاردة لاقتناص جسيم في تاريخ الفيزياء.
وفي مسرِّعات ضخمة تحت الأرض اتاح العلماء تصادم الكترونات وبروتونات وجسيماتهما المضادة بقوة متزايدة أكثر فأكثر محررة طاقة أكبر فأكبر خلال العملية. وبهذه الطريقة تمكن العلماء من اكتشاف الكوارك السفلي والكوارك العلوي، كما كان متوقعا في الفيزياء النظرية. ثم تلا ذلك اكتشاف الميون وتاو ونيوترينو تاو. وبذلك اكتُشفت كل لبنات بناء الطبيعة ما عدا لبنة واحدة هي جسيم هيغز. وأثار هذا تساؤلات عما إذا كانت نظرية هيغز خاطئة وان المادة وُجدت بطريقة مختلفة.
تذهب النظرية الى ان جسيمات هيغز تُصنع كل دقيقة ولكن الغالبية الساحقة منها تُفقد بلا رجعة في وابل الجسيمات المتصادمة. ولا يتحلل إلا واحد من كل 1000 جسيم هيغز الى كم من أشعة غاما ذي طاقة عالية.
ويأمل العلماء بأن تكون هذه هي اللحظات النادرة التي يرصدون فيها وجود الجسيم. ولكن عدد مثل هذه المناسبات التي مرت عليهم صغير بحيث لا يقنع الفيزيائيين بأنهم على صواب. ولكنهم مع ذلك متشجعون بحقيقة ان التجربتين الرئيستين اللتين اجراهما العلماء في مختبر المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية سجلتا اشارات متماثلة. ويتفق فريقا العلماء اللذان اجريا التجربتين المنفصلتين على ان المسألة يجب ان تُحل في موعد اقصاه نهاية العام المقبل. وتوقع مدير المنظمة هوير ان يتمكن العلماء في غضون عام من الإجابة عن السؤال الوجودي الذي طرحه شكسبير على لسان بطله هاملت: quot;ان تكون أو لا تكونquot;.
والسؤال التالي هو ما سيحدث بعد الإجابة ايا تكن.
يرى هوير ان ما يبدو نهاية عقود من البحث عن جسيم سيكون في الواقع بداية حقبة جديدة. فعلى امتداد ما يقرب من 80 عاما سعى العلماء الى اكتشاف ما توقعه الفيزيائيون النظريون منذ زمن طويل. والآن يريد هوير وزملاؤه ان يبدأوا رحلة اكتشاف ارض بكر.
ومضى الفيزيائيون النظريون ابعد من النموذج المعياري بأفكار عما يُبقي الكون متماسكا في نسيجه الداخلي، وأفكار عن وجود أبعاد إضافية خفية وخيوط فائقة وأكوان متوازية.
ولكن جميع هذه التمارين الفكرية تُمارس في عالم التخمين والتكهن. ولا يستطيع الفيزيائيون النظريون ان يحققوا تقدما من دون معلومات يحصلون عليها في المختبر. وهذا على وجه التحديد ما يُنتظَر من صادم هادرون الكبير في جنيف ان يوفره. وتنقل شبيغل اونلاين عن مدير المنظمة الاوروبية للأبحاث النووية هوير وصفه اللغز المطلوب فك طلامسه قائلا quot;ان 4 في المئة فقط من الكون يتألف من مادة مرئية والباقي طاقة داكنة ومادة داكنةquot;.
واستخدم الفيزيائي فابيو جيانوتي الذي شارك في احدى التجربتين، استعارة شعرية في الوصف قائلا quot;ان ما نعرفه قطرة ولكن ما لا نعرفه محيطquot;.
وأعد العلماء من الآن مرشحا لما يمكن ان يشكل المادة الداكنة واطلقوا عليه اسما موسيقيا هو quot;نيوترالينوquot;. وتستند الفرضية القائلة بوجود هذا الجسيم الى الفكرة القائلة ان لكل جسيم شريكا خفيا. ويُطلق على هذه الفكرة اسم quot;التناظر الفائقquot; أو quot;سوبر تناظرquot;. وتذهب النظرية الى ان للشريك نيوترالينو الخواص ذاتها تماما التي تُنسب الى المادة الداكنة.
ولهذا السبب تأتي هذه المهمة على رأس المهمات التي حددها فيزيائيو صادم هادرون الكبير لأنفسهم.
ويمكن لنظرية التناظر الفائق ان تجدد البحث عن جسيم هيغز. ويقول فيزيائيون نظريون ان فرضياتها لا توفر شركاء جددا للكواركات والالكترونات والنيوترونات فحسب بل تنطوي على جسيمات هيغز أخرى ايضا، خمسة منها على أقل تقدير.
| ||||||||||
| ||||||||||
| ||||||||||
| ||||||||||
| ||||||||||
التعليقات