ياسين عدنان اثناء مشاركته في مؤتمر غرناطة الشعري في تشرين الثاني الماضي

&
كنت أظن و أنا أعبر شارع الموتى
أن القيامة مجّرد حكاية في كتاب
حتى جاءت الساعة بغتة
وانفلقت الجبال العظيمة عن فئران
صغيرة سوداء
ورياح شديدة الفتك
فجاء الملوك والمنجمون
وجاء الحكماء من الكتب القديمة
وجاء أدونيس وادّعى أنه المتنبي
وجاء عبد المنعم رمضان فسألته العصفورة
عن ناريمان
وجاء قاسم حداد
ليدل الوعول على قبره
وجاء الصّدّيقون فكذبوا
وجاءت مدام إدواردة عارية فتغوطت أمام الخلق
وجاء إسرافيل وملائكة الحراسة
وجاء الكهربائيّ وبائع الطاقيات المطرزة بألوان الفرح
وجاء باعة السجائر بالتقسيط
وجاءت سيارة الإسعاف
وجاءت الطفلة بتنّورتها البيضاء
وجاء العاشقان على متن وردة
وجاء الجابي و البهلوان و المهرّج ذو الرنين المرّ
وجاء حلمي سالم فبدا رومانتيكيا للغاية
وجاء ابن سيرين عاريا من أحلامه
وجاء أسامة بن لادن و مجاهدو بيشاور و الملا عمر أمير قندهار
وجاءت حاملات الطائرات و صواريخ الكاتيوشا
وعميلات الموساد الشقراوات
وجاءت الناقة فعقروها
وجاء الكسعيّ ولم يكن نادما على الإطلاق
وجاء معاوية بن أبي سفيان
وكان محرجا للغاية
وجاءت مرام المصري وبيلين خواريث و سوزان عليوان
ورحنا جميعا ننفخ على النار لتصير بردا
ونعض بأسناننا على لهب مطّاطي قديم
لم يلتفت أي منّا نحو شجرة الخروب
حيث كان بن حزم يمسك بخناق شاعر مغربي حديث
لم نلتفت فقد خذلتنا الأعناق
والعيون صارت مجرد سحائب غامقة على الوجوه
لم نعد نرى
ولم نعد نتبين سحنة العالم
لكن الحكماء بيننا قالوا إن الأشجار صارت رمادية
والشرفات التي على الجدران
سالت كما تسيل العيون التي كانت
تتوسّط الأحداق.
لم نعد قادرين على الفرح. ولا على التعب
من الوقوف
لأن أرجلنا تقلّصت بالتدريج
ذابت الأصابع أوّلا..ثم انمحت الأقدام
ولم تعد هناك في العربية
كلمة اسمها الخطى
قلوبنا هي الأخرى صارت مثل مجوّفات
فضية صغيرة
فغرقت كلمة الحب في القاموس المحيط
وصرنا ننظر إلى بعضنا دون أن نشعر بأي شيء
ودون أن نتذكر أسماءنا ولون أعيننا
فظننت مثلا أن المعرّي الذي كان ينفخ بجواري
على النار لتصير بردا
هو الذي كتب "أنا باز"
و أن عبد الرحمن بن ملجم من اغتال السادات.
لم أكن جدلان ولا ناقما
كنت مشدوها فقط
حيث اختلطت في الجو روائح كثيرة
قال بعضنا: هذه رائحة السماء التي كانت فوقنا
وقال آخرون: هذه رائحة الأطفال
وقد كبروا بغتة
و أضاف جنين من بطن أمه: هذه مصائرنا تشوى
فهمست لعريشة القصب:
متى يأتي رجال الإطفاء ؟
لكن الحكماء الذين كانوا يتأمّلون مصير العالم
في الكتب القديمة
بدوا منشغلين بمشاهدة فيلم(بَيْسِك انستانكت)
على جهاز فيديو
حتى أن (شارون ستون) منعتهم من مواصلة النفخ
مع رفاقهم
على النار الموقدة في أرواحنا
لكأنما اكتشفوا داخلهم نارا أخرى
فصارت الأولى سلاما دون نفخ
وكان العازفون ينفخون في النايات أيضا
من مكانهم على غرّة التّل
كان بعضهم ينزف وهو يعزف على أوتار مجندلة
في نوتاتها
وكان الآخرون يراقبون الكهرباء وهي تطعن
ضوءها الأخير
بشمع القيامة الفتاك.
فعم ّالظلام قلوب الرّضّع والغرقى
وحلقت طيور عظيمة الأجنحة على علوّ
عشرة أقدام. وعمّ
الظلام.
فجاء المصلّون على النبي الأمّي. وجاء
الدكاترة العاطلون
جاء الملثمون على بعرانهم
والساحرات على مكنسة كهربائية
جاء الضباط في سيارات مصفّحة
وضباط الصف راجلين
جاءت المواعيد في وقتها بالضبط
وجاءت الساعة وجرس المنبه
والنواقيس عادت من حيث رنّت
فجاء أهل الكهف يتبعهم كلبهم
وجاء رجال الأمن يسبقهم المخبرون
وجاء من أقصى المدينة صحفيون مستقلون
حتى عن ضمائرهم
وكتبوا...
فقال الشعراء إنهم لم يسمعوا النفخ في الصور
وقال شهود عيان إن ضوءا دافقا
غسل السماء
ثم عرّش مثل لبلاب في الأرواح
وقال راع أعمى إن ريحا عظيمة مرت
ولم يسمع دويّها أحد
لكنّ امرأة بعيدة شهقت
فعمّ لغط وسادت جلبة
وتعب الواقفون ممّا تبقّى من أقدامهم
والنائمون من جنوبهم
والموتى من فكرة البعث.
كانت الشمس نارا صادقة اللّهب
لذا سالت الأعضاء
على رصيف القيامة
فاكتشف الكثيرون أن الذوبان ليس مجرد
استعارة
و أنه ليس منذورا للشمع وحده
فبدؤوا ينفخون من جديد
لم يبصروا وردة اللّهب العظيمة وهي تتصبب
حمما
فوق الرؤوس
ولا رأوا الريح تلهث حيرانة خلف نوايا
الجبل
كانوا منهكين تماما
ولم يسمعوا شيئا مما قالته شجرة الخرّوب
لظلها
كانت كل المحلات المجاورة مغلقة
باستثناء مقهى صغير
في زقاق
وكان صبي المقهى يقطع الساحة لاهثا
وهو يحمل صينية الشاي
لملائكة الحراسة
على الجانب الآخر من المحشر
فيما أعضاؤه و أحلامه الأولى تسيل
على تراب قديم
وكان ملوك قصيرو القامة يتلون خطبا مطوّلة
بتفان و نكران ذات
لم يكن واضحا أنهم معنيون بما طرأ على الكون
كانوا مهتمين فقط باحترام قواعد النحو
ومخارج الحروف
وكان واضحا أنهم يقرؤون نصوصا مشكولة
بلون مغاير
وفيم الملوك يقرؤون والرعية تنفخ
حلّقت قبرة داكنة اللون
فوق رؤوس الخلق
ففكر الشيوخ في الهدهد
وغمغموا بكلام غامض لم تفهمه الريح
وقالت امرأة في سرها: لكل محنة طيرها
الأثير
وقال العرافون: لكنها المحنة التي لا محنة بعدها
و استغفروا الله
ومثلما كان يحدث قبل الموت
حين كان للعشاق دوما رأي آخر
فإن عاشقين انتبذا ظل زيتونة قصية
وتمازجا تحتها
بعد أن صارت الأجساد مائعة
بسبب وردة اللهب التي تقصف الكون
تمازج العاشقان تماما
وكانا متعانقين
ربما لم يقتنعا بجدوى النفخ
فآثرا العناق
وكانت الفراشات تحوم
حول الكتلة اللّزجة
التي خلّفها تمازج جسديهما
فتحلّق من حولهما خلق كثير
وهكذا اغتاظ الملوك و مزّقوا خطبهم
و اغتاظت النار فلم تكن بردا
وتحكي المرأة التي شهقت أن العاشقين
كانا يبتسمان
ومن عناقهما سال دفق بنفسجي
انسرب كجدول من بين أرجل الرجال
وعند البئر المهجورة
استوى نبتة بزهرة شفيفة
حتى لكأنها ضفيرة ماء
فقالت المرأة التي شهقت لابنتها
اشربي من عين الزهرة
قالت البنت
أنا لا اشرب من عين معلّقة
في السماء
قالت الأم للهواء
كن هدنة النار ودع ماءك يجري
على تراب اليقين
قال الهواء
أنا إسكافي المحبة.سادن زهرة العشاق
ولن أسقط في حبائل الطين
فقالت البنت
سأتسلق الهواء لأشرب من العين، وشربت.
لكن الشيوخ الذين كانوا تحت الجمّيزة
المأهولة بالأرواح العطشى
لم يصدقوا الماء و لا الهواء ولا بركة العاشقين
وواصلوا النفخ
على النار التي تأكل أحلامهم
وحينما اختارت بنت في عمر فراشة
البكاء
لتبرد نارها
لم يسعفها الدمع
فحفرت حيث كانت العينان
إنما كمن يحفر في ريح
و إذ حفرت أعلى قليلا
فارت من رأسها بعض الوصايا
شهقات غرقى
وليل قتيل
و أفرغت نسوة ما في صدورهن
عدى الرئتين
عسى الهواء يرضى
ووضعن أحشائهن في صندوق زجاجي معقّم
وعلقن أرواحهن
قرب عمارة الكهّان
لكن الأرواح أورقت في غفلة منهن
على حبل الغسيل
ثم استطالت الأوراق وصار لها رفيف
كانت تبدو
مثل أحصنة خضراء مجنّحة
فتساءلت إحداهن و كانت تشكيلية قبل الموت
أين رأيت مثل هده اللّوحة؟
أين؟
فأجابتها عجوز قرأت الكتب
و أدركت ما في الأسفار:
ليست لوحة. إنها المشيئة وقد أطبقت على مصائرنا
الآن يمكنك أن تهبي جسدك
للنار
فقد صارت الحياة مجرد حكاية تروى
وكان ثلّة من مروّضي المصائر في طريقهم
إلى حانة القيامة
حينما استوقفتهم ريح مجندلة
عند قدم الجبل
كان واضحا أن البرق الأعمى اغتصبها
فجرحها ينزف غيوما و عواصف
في لون الفضة
لكن الهدوء المخادع لذئبة الظهيرة
جعل المروّضين يرتابون قليلا
فتركوا الريح للرّيح
وواصلوا صعودهم باتجاه النبيذ الأخير
كانت ألسنتهم تسيل على صدورهم
من فرط اللّهفة
وحين مروا بمحاذاة البحيرة الحكيمة
نادتهم شجرة سرو :
أيها الراكضون إلى حتفكم
إلعقوا الألسنة من على صدوركم
وعودوا إلى هدنة الظهيرة
قبل أن تحوّلكم القدرة الجبّارة إلى ربوة آثام
لكنّ المروّضين كانوا جادّين في صعودهم
الصّادق نحو المعصية
&
لم تكن الطريق ما يشغل بالهم
ولا باب الحانة الدي صار ريحا
لم تكن الكؤوس
ولا الصّفرة التي طالعت وجه الغيب
كانوا مستغرقين في السّير
دون أن يبالوا بمواطئ أقدامهم
وكانت النار تجري من تحتهم أنهارا
وكانت سماؤهم
قد استحالت كبّة لهب صفراء
تحجب الغيب
لكن لا شيء يشغل بالهم
فقد كان رنين الخطى
كلّ زادهم في الطريق إلى فضّة المعاصي
لم يسمعوا وهم يصعدون لا النفخ الدي كان
ولا غرق المجرّات في مداراتها
لم يسمعوا الرضيع يصرخ في القماط
أمّاه إني أجفّ.أريد دموعا لأبكي
أريد حليبا لكيلا تغادرني
نجوم الله
لكن الأمّ دفنت وجهه في صدرها
فغاص الصبي بالداخل
حتى لم يبق منه شيء
بلى
كانت رجلاه تتدلّيان من بين نهديها
فقالت الأم
بشرى لك يا بني
الأعضاء التي تحرض على المعاصي غادرتك
فطوبي لروحك يا قرة عيني
ستعود إلى السّدرة البيضاء
بيضاء
وفي طريقها إلى النور الشاهق
استوقف الروح نيزك ضجر
قال:
ياروح الصبي
التقطي أنفاسك عند سفح ناري
إنها برد منذ كانت
و ياروح الصبي من أي البلاد أنت؟ من أمك؟ من أبوك؟
ومن علّمك الطيران؟
قالت الروح
لا اعرف لي أمّا ولا وطنا
كل ما أذكر أني كنت محبوسة في طين عفن
وكان لي قلب وعينان
و أعضاء أخرى لم أعد أذكرها
فيا نيزك الشؤم دعني إن لي عمرا هناك
ومضت
تحرسها النجوم و العين التي لا تدركها الأفلاك
وما إن غابت الروح الطفلة حتى تدفّقت
المزيد من النيران
تدفق المزيد من اللّزج اللاّهب
والمزيد من عشب القيامة الضّاري
فإذا جرار اللّغة تتهشم
على صخرة العدم
وأظلم صوتي بعد أن زلزلت تحت سقيفته
اللّغات
فلم أعد أعرف الفرق بين الشاهق وسيارة نقل اللحوم
ولا بين عواء الذئبة والحب
لم أعد أعرف هل هي بابل أم نيويورك
هل وردة الرمل أم زهرة الكهرباء؟
كان العالم قد أغلق كتابه و انسحب إلى الخارج الأعمى
وبقيت نهبا لذئاب الحيرة
فالأحاسيس غادرتني تباعا
الإحساس بأنني كنت. و الإحساس بأنني لن أعود
و الإحساس بأن هناك
شيئا اسمه الجسد كنت أرتديه
كانت ألسنة اللّهب تنهش الرّمق الباقي
فيما الدّويّ الأخير يتغمّد
الألباب.
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& &&&&&&&&&& ورزازات& 2001
&