لا يختلف اثنان على أن العرب يعيشون حالة مأساوية، هزائم وكوارث وتخلف وأمية وظلم الحكام وأنظمة جائرة وتقديس الاستبداد وانفجار سكاني ينذر بالمزيد من الكوارث، الفقر، وفوق ذلك كله تفشي الإرهاب باسم الإسلام والذي جعل العرب والمسلمين في حالة مواجهة دموية مع العالم. تقول الآية الكريمة (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). وحسب فهمي للآية أن المقصود (بأنفسهم) هو طريقة تفكيرهم أي عقلهم الذي يقرر سلوكهم في الحياة. ولذلك أعتقد أن العقل العربي واقف على رأسه ويرى الأشياء بالمقلوب. بعبارة أخرى أن العرب هم ضحية ثقافتهم الموروثة (culture). وهذه الثقافة هي بدوية في الأساس، وهناك إصرار شديد على التمسك بها. وهذا يعني أن العرب ضد التغيير والتطور الحضاري طالما تمسكوا بعقلية أجدادهم البدو، فكما قال أرنولد توينبي: quot;البداوة حضارة متجمدةquot;.
قبل عامين نشرت مقالاً بعنوان (العرب وعقلية التدمير) بينت فيه أن العقل السائد في المجتمع العربي هو سبب تكريس التخلف وإنتاج قادة مستبدين يقودونهم إلى حتفهم من أمثال جمال عبدالناصر ومعمر القذافي وصدام حسين وحافظ الأسد وبشار الأسد وبن لادن والزرقاوي وحسن نصر الله وغيرهم كثيرون. فهؤلاء لم يخلقوا الوضع الفاسد والعقلية السائدة في البلاد العربية، بل هم نتاج هذا الوضع الفاسد وهذه العقلية التدميرية، إذ هناك حلقة مفرغة في العالم العربي، الثقافة البدوية السائدة تنتج حكام مستبدين، والحكام المستبدون يعملون على تكريس التخلف ومقاومة التطور والحداثة. وبعابرة أخرى، الشعوب الجاهلة المضطهدة لا يمكنها أن تنتج حكاماً ديمقراطيين، ولا الحكام المستبدين يمكنهم قيادة شعوبهم نحو الديمقراطية واحترامها.
في هذه المداخلة أود أن أضرب بعض الأمثلة التي تؤكد صحة ما ذهبت إليه في مقالي السابق بأن العرب مازالوا مصرين على مواصلة ذهنية التدمير ومقاومة التغيير وكل ما يخدم قضيتهم، إذ كما تقول الحكمة: (يفعل الجاهل بنفسه كما يفعل العدو بعدوه). ولذلك فأشد الناس عداءً للعرب هم العرب أنفسهم وقادتهم الذين يقودونهم من كارثة إلى كارثة وباستمرار.
1- القضية الفلسطينية: في عام 1937 اقترحت بريطانيا تخصيص ربع مساحة فلسطين لقيام حكم ذاتي لليهود ضمن الدولة الفلسطينية، فرفض العرب والفلسطينيون الاقتراح. كما ورفضوا مشروع التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948، وأصروا على فكرة (كل شيء أو لا شيء) وتحرير الأرض من النهر إلى البحر وإلقاء إسرائيل في البحر لتأكلها الأسماك. وفي عام 1960 اقترح الرئيس العراقي، الزعيم عبدالكريم قاسم، قيام دولة فلسطينية تضم الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن، وقطاع غزة تحت سيطرة مصر، فرفض العرب ذلك الاقتراح وشن عبدالناصر حملة شعواء عليه واعتبره مجنوناً وعميلاً للصهيونية والاستعمار. وفي عام 1964، اقترح الرئيس التونسي لحبيب بورقيبة على عبدالناصر، لحل الصراع العربي-الإسرائيلي بالاعتراف بإسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية وبذلك يمكن تحرير الثروات العربية للتنمية بدلاً من صرفها على سباق التسلح وطرق غير مجدية. فوافقه عبدالناصر أول الأمر، وطلب منه الإعلان عن مشروعه. ولما فعل بورقيبة ذلك وقوبل باستنكار الشارع العربي العاطفي الغوغائي انضم عبدالناصر إلى الغوغاء بدلاً من تهدئة الرأي العام العربي وإقناعه بالحلول العقلانية الواقعية الممكنة. والنتيجة كانت الهزيمة الكبرى في حرب حزيران عام 1967 وضياع كل فلسطين وأجزاء من الدول العربية المحيطة بها. كما رفض العرب اتفاقية كامب ديفيد الأولى عام 1978 في عهد كارتر، والثانية عام 2000 في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون. وفي جميع هذه الحالات اعتبر العرب الحكام الداعين للحلول السلمية الممكنة خونة والرافضين لها أبطالاً.
2- تأميم قناة السويس: مرت هذه الأيام الذكرى الخمسون على عملية تأميم قناة السويس عندما أعلن عبدالناصر ذلك في خطاب له في مدينة السكندرية عام 1956. بدت العملية في الظاهر، بطولية ووطنية، ولكن في الواقع كانت مغامرة غير محسوبة العواقب جلبت الكوارث على الشعب المصري، وما كان لها أي مبرر عقلاني. إذ تعرَّضت مصر بسبب تلك المغامرة إلى ما سمي بـ(العدوان الثلاثي-بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) كلفها عشرات المليارات من الخسائر المادية ومئات الأرواح من الضحايا وعطَّلت قناة السويس عن العمل لمدة عشر سنوات، ومازال الشعب المصري يئِّن من عواقبها. فكما قال الراحل نجيب محفوظ في مقابلة له نشرت في صحيفة الزمان اللندنية قبل سنوات، أن إقدام عبدالناصر على تأميم القناة كان مغامرة دون مبرر، ولأغراض شخصية ليضمن لنفسه مكاناً في التاريخ. لأن العقد الموقع بين مصر وفرنسا وبريطانيا كان سينتهي في جميع الأحوال بعد عشر سنوات من تاريخ تأميم القناة، أي عام 1966. وكان بإمكان الحكومة المصرية عدم تجديد العقد وإعلان ملكيتها الكاملة للقناة وبدون حرب وخسائر فادحة. ولكن مع ذلك أصر عبدالناصر على خوض المغامرة وجلب البلاء على الشعب المصري، ولولا التدخل الأمريكي في عهد آيزنهاور لوقف الحرب لاستطاع التحالف الثلاثي احتلال القاهرة وإسقاط حكومة عبدالناصر. ولكن مع ذلك اعتبر العرب تلك المغامرة بطولة رائعة خرج منها عبدالناصر منتصراً وبطلاً قومياً ليس لمصر فقط بل وللعالم العربي كله. فهل حقاً كان تأميم القناة عملاً مجدياً ولصالح الشعب المصري؟
3- هزيمة حزيران 1967: قاد عبدالناصر شعبه والشعوب العربية إلى أكبر هزيمة في تاريخ العرب آنذاك. ولكن مع ذلك اعتبرها العرب بطولة لعبدالناصر. ثم جاء السادات واسترجع جميع الأراضي المصرية المحتلة عام 1978 حسب اتفاقية كامب ديفيد دون قطرة دم واحدة. ويا للمفارقة، مرة أخرى، اعتبر العرب عبدالناصر الذي قادهم للهزيمة بطلاً قومياً، والسادات خائناً تم اغيتاله.
4- جرائم البعث بقيادة صدام حسين: قائمة جرائم البعث معروفة حيث أدت سياساته الطائشة إلى تدمير العراق وإيران والكويت وانتهى أخيراً في حفرة حقيرة كالجرذ المذعور. ومع ذلك اعتبره العرب بطلاً والذين عملوا على إسقاط نظامه الجائر وانتخبهم الشعب في انتخابات حرة ونزيهة حسب المراقبين الدوليين، اعتبروا خونة والنظام الديمقراطي جائر وعميل.
5- المحاكم في البلاد العربية: تجرى يومياً محاكمة سياسيين ومفكرين ليبراليين في البلاد العربية بتعسف وعلى طريقة القروقوش وهناك المئات من المفكرين العرب الأحرار مشردين في المنافي. بينما تمت محاكمة صدام حسين وأعوانه في العراق على جرائم ضد الإنسانية وفق قوانين وتحت أضواء الكاميرات التلفزيونية، ومنح المتهمون حرية الدفاع والكلام إلى حد أنهم استغلوا التساهل معهم فأحالوا جلسات المحكمة إلى مناسبات للإلقاء الخطب السياسية والقصائد الحماسية والتحريض وغيره. ومع ذلك يعتبر العرب محاكم الأنظمة المستبدة نزيهة وعادلة، والمحكمة العراقية التي حاكت صدام وأعوانه ظالمة وعميلة وغير شرعية!!
6- الانتخابات في البلاد العربية: كلنا نعرف كيف تجري الانتخابات الرئاسية في البلاد العربية حيث المرشح الواحد وتنتهي بنتائج 99.99% للرئيس وفوز مرشحي الحزب الحاكم بنفس النسبة، تعتبر شرعية وعادلة ونزيهة، بينما الانتخابات التي جريت في العراق وتحت مراقبة دولية ومنافسة شرسة وتهديد الإرهابيين للناخبين بالقتل، تعتبر من قبل العرب انتخابات مزيفة وغير شرعية!!
7- النصر والهزيمة من منظور عربي: قام السيد حسن نصر الله بمغامرة غير محسوبة العواقب، بالتحرش بإسرائيل مما عريض لبنان إلى الدمار، مقتل أكثر من ألف ومائتي لبناني وجرح الألوف وتشريد مليون نسمة، وتعطيل الاستثمار، وخسائر مادية تقدر بنحو 15 مليار دولار. ومع ذلك اعتبر العرب هذه الكارثة نصراً إلهياً!! وكل من لا يوافقهم على هذه العقلية فهو خائن وعميل للأمريكان والصهاينة ولا يريد الخير للعرب.
8- موقف العرب من حكومات الدول الخليجية: اتبعت حكومات دول الخليج سياسة عقلانية في الإدارة والتنمية البشرية والاقتصادية وذلك بسبب تبني علاقة صداقة وتعاون مع الغرب والعالم دون أية عنجهية فارغة كالتي اتبعتها الحكومات العربية الثورجية. وبذلك حقق شيوخ دول الخليج نجاحات باهرة في استثمار واردات نفوطهم في خدمة شعوبهم وجعلوها أغنى شعوب العالم، وحولوا مدنهم إلى ناطحات سحاب تنافس أكبر المدن الأمريكية في العمران، كما وحولوا صحارى بلادهم إلى غابات النخيل وجنات وارفة، بينما بدد الحكام الثورجيون مثل صدام حسين والقذافي والأسد ثروات بلدانهم على الأسلحة وعسكرة مجتمعاتهم وإفقار شعوبهم. أما صدام حسين فقد حوَّل العراق الذي كان يسمى يوماً ببلد السواد فيه 30 مليون نخلة إلى صحراء قاحلة وشرد أهله وانتهى بحفرة. ومع ذلك يعتبر العرب حكام الخليج عملاء للغرب وصدام حسين وأمثاله أبطالاً.
وهذا غيض من فيض كما يقولون، فهل هناك عقلية مدمرة أكثر من هذه العقلية؟ فمتى يتحرر العرب من عقلية البداوة ويصحوا من سكرتهم لينتبهوا إلى أنفسهم ويحاولوا التخلص من تخلفهم واللحاق بالركب الحضاري العالمي؟
التعليقات