-1-
لم اهتم كثيراً بالحكم الذي صدر على quot;هُبل العراقquot;، لأنني اعتبرت بأن هذا الصنم قد تحطم فجر التاسع من نيسان 2003 كنظام حكم في العراق. وسواء أُلقي القبض على صدام أم ظل شريداً حتى يموت فأراً فاراً ، فذلك لن يقدم ولن يؤخر في مسيرة العراق الديمقراطية العسيرة والطويلة.
بل إنني كنت أعتبر محاكمته ومحاكمة رجال حكمه من عبيده، كان مضيعة للوقت والجهد والمال. وكان مناسبة لكي يكرر فيها الديكتاتور شعاراته الكاذبة والمزيفة لكي يتناقلها الإعلام العربي، الذي ما زال يتلمّظ بحلاوة أيام ودنانير وكوبونات الطاغية. وكان غباء ما بعده غباء من أمريكا ومن السلطات العراقية اصرارهما على محاكمة صدام، في العراق، وبمحاكمة نزيهة في جو اعلامي عربي متشنج، لم يسبق أن شهد محاكمة نزيهة طوال تاريخه الممتد. وخرجنا من كل هذه المحاكمة التي كنا نعلم جيداُ حثيثاتها وتفاصيل الجرائم التي ارتكبها المجرمون، بصور وبوزات quot;للزعيم الخالدquot;، وشعارات ممجوجة، وعبارات بذيئة ووقحة، تعيدنا إلى سنوات مضت من البذائة والعنجهية وقلة الأدب السياسي لحكام زعران، شاءوا في غفلة من التاريخ من الشوارع الخلفية، ليحكموا شعوباً ويسوقوهم كالقطعان.
فأين هي محاكم العرب النزيهة، دلّوني على وحدة فقط، نحن أمة أصحاب شعار quot;العدل أساس المُلك؟
-2-
محاكمة صدام وباقي المجرمين معه ، لم تكن محاكمة تاريخية أو quot;محاكمة التاريخquot; كما يدّعي البعض ويتشدق، ولم تكن محاكمة نزيهة كما يقول خصومه، ولم تكن محاكمة غير عادلة كما يقول أنصاره. لم تكن أي شيء. كانت عملاً عبثياً، وقراراً أحمق، لم يكن لصالح العراق والعراقيين. ولذا، لم يهتم العراقيون كثيراً بمجريات هذه المحاكمة، ولا بأيامها، وجلساتها.
كان العراقيون مسبقاً قد حفظوا عن ظهر قلب وغيباً، كل كلمة قيلت في هذه المحكمة، لأنهم حاكموا صدام من قبل، بعقولهم، وقلوبهم، وآلامهم، وجراحهم، وقتلاهم، ومشرديهم، وحكموا عليه بالموت، قبل أن تصدر المحكمة حكمها بالأمس.
حكموا عليه من خلال هذه الآلاف المؤلفة التي دفنها في المقابر الجماعية، وقتلها في السجون، وشردها في المنافي.
حكمت عليه العراقيات الماجدات من خلال ما فقدن من أعزاء الآباء والابناء والأطفال الذين أكل أكبادهم الطاغية.
حكم عليه نخيل العراق من خلال كثرة ما أحرق من هذا النخيل.
والحكم الذي جاء بالأمس لم يكن عربياً ولم يكن اسلامياً. إنه حكم من أجل ارضاء الرأي العام العالمي والشارع الأمريكي. ولو لم تكن أمريكا ذات علاقة، لما تمت المحاكمة على هذا النحو. فلا أحد من العرب أو المسلمين حاكموا خصومهم على هذا النحو الحضاري الرفيع. ولا أحد من العرب أو المسلمين حاكم والياً أو خليفة أو أميراً أو ملكاً أو رئيساً أو معارضاً على هذا النحو من النـزاهة. ولو تُرك صدام لشعب العراق لفرموا لحمه، وشووه كباباً في شارع أبي نواس.
-3-
ليست محاكمة quot;القادة العظامquot; من شيم العرب، أو من تقاليدهم النبيلة.
فالتاريخ العربي المجيد طوال 1400 عاماً ويزيد، لا يذكر لنا حادثة واحدة فقط، تمت فيها محاكمة أحد quot;العظماءquot; الطُغاة.
كما أن المحاكمات للخصوم ليس من التقاليد العربية العريقة. فالتاريخ العربي المجيد لا يذكر لنا، لا في الماضي ولا في الحاضر، وقائع محاكمة واحدة فقط لخصم من خصوم الحاكم.
لقد اعتاد العرب والمسلمون كما في ماضي الأيام وحتى اليوم ، وكما يقول لنا عبود الشالجي في (موسوعة العذاب) أن يدفنوا خصومهم أحياء دون محاكمة، كما فعل معاوية بن أبي سفيان مع عبد الرحمن بن حسان. أو يقتلوهم رمياً بالرصاص دون محاكمة، كما فعل صدام مع خصومة في مذبحة عام 1979. أو أن يبنوا عليهم كما فعل هارون الرشيد مع يحيى بن الحسن. أو أن يضعوا الخصم في السجن، ويهدموا السجن عليه كما فعل الخليفة المنصور ببني الحسن. أو أن يدسوا لهم السم كما فعل السلطان عبد الحميد بعبد الرحمن الكواكبي. أو أن يضعوا الخصم في ماء يغلي كما فعل الخوارج بنساء وأطفال العرب بعد خروجهم على علي بن أبي طالب إثر التحكيم.. الخ.
-4-
بشنق صدام غداً، هل سينتهي الطُغيان من العراق؟
هل انتهى الطُغيان العربي بموت الطُغاة العرب : معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، ويزيد بن عبد الملك، والحجّاج الثقفي، وخالد القسري، والخليفة العباس السفاح، والخليفة المنصور، والسلطان عبد الحميد العثماني، وجمال باشا، وأحمد باشا، ومدحت باشا، ونوري باشا، وغراب باشا، وعبد الناصر، والحسن الثاني، وجعفر النميري، وحافظ الأسد، و.. و..و..
هل أزيدكم، أم هذا يكفي؟
لقد مات كل هؤلاء الطُغاة، ولكن الطُغيان بقي في العالم العربي حتى الآن.
صدام هو أول الطُغاة، ولكنه ليس آخرهم.
هو أول الطُغاة العرب الذين يلقون جزاء الموت في حياتهم، ولكنه لن يكون آخر الطُغاة.
صدام سيشنق غداً، ولكن الطُغيان لن ينتهي من العراق.
انتهاء الطُغيان لن يتحقق بموت الطُغاة، ولكن باندثار ومحو القيم السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية التي جاءت بهؤلاء الطُغاة إلى الحكم.
الحرية وحدها والديمقراطية وحدها هي التي تدفن الطُغاة قبل أن يولدوا في أرحام أمهاتهم.
وإذ لم تتحقق الديمقراطية والحرية في العراق كاملة ، فسوف يظهر الطُغاة في العراق من جديد.
-5-
نريد أن نذِّكر فقط، بأن صدام حسين أول حاكم عربي طاغية، في التاريخ منذ آلاف السنين يُحاكم هكذا، ويُحكم عليه بالموت. فطُغاتنا كانوا أسيادنا، ونحن عبيدهم، حتى وهم في قبورهم. فما زلنا نذكر طُغاتنا العظماء في التاريخ ونقول: quot;رضي الله عنهمquot;.
فما الذي حصل فجر التاسع من نيسان 2003؟
لم يكن سقوط نظام طاغٍ فقط ، ولكنه كان فجراً للحرية التي أعادت للعراق روحه المسلوبة.
فالعراقي لم يكن يحب العراق كما يحبها اليوم، رغم كل هذا العذاب الجهنمي اليومي، لأنه بكل بساطة لم يكن حراً.
-6-
يقول الشاعر الإسباني غارسيا لوركا لحبيبته ماريانا:
ما الإنسان دون حرية يا ماريانا؟
قولي لي: كيف استطيع أن أحبك إذ لم أكن حراً؟
كيف أهبك قلبي إذ لم يكن مُلكي؟
السلام عليكم.
التعليقات