ولدت الأديان جميعها من رحم الخوف من المجهول. وإذا شئتم قلنا: من رحم الأساطير. ولم تسُد وتستمر منها سوى الثلاثة السماوية [الشرق الأوسط] والستة الوضعية [في الشرقين الأدنى والأقصى] * أما البقية فقد ضاعت ولم تصلنا. ومع تحفظي على صفة quot; السماوية quot;، بادىء ذي بدء، ومع اعترافي بأنّ اطلاعي عليها جميعاً، جد قليل بل ونادر، بحكم ظروفي الأولى، وتكويني وخياري الثقافي فيما بعد: أي مع أنني غير ذي صلة بالموضوع، إذا أردتم الدقة، إلا أنّ هذا التحفظ لا يمنع، ولا ينبغي له أن يمنع الواحد منا، من مقاربة شأن له كل هذا التأثير الخطير على حياتنا، وعلى مجمل نظرتنا للوجود ولأنفسنا وللآخرين من حوالينا. بمعنى، لن أناقش الأديان، كأديان، بل سأتطرق إلى مفاعيلها الهائلة وتأثيراتها السرية والمعلنة على الإنسان، في عصرنا الشقي بالتحديد، وفي منطقتنا العربية على نحو أكثر تحديداً. سأناقش الدين وهو يتحوّل إلى أيدولوجيا. هذا هو مُنطلقي بدءً ومنتهى. إذ لأول مرة، على الأقل في حياتي، يكون للدين، وهو ينقلب إلى أيدولوجيا، مثل هذا القدر الهائل من التسييس، وهذا القدْر الأشدّ هولاً من القدرة اللامتناهية على quot;التدخّل السريعquot;. فنراه الآن يدخل في كل تفصيل، كبير أو تافه، من تفاصيل عيشنا اليومي، وحياتنا على هذه الرقعة من العالم. أقول تسييس وتدخّل سريع، لأنني، لم أر الدين مُسيساً ومُتدخّلاً فائقَ السرعة، إلا في العقدين الأخيرين فقط. قبل ذلك كان الناس مؤمنين ومتقين، ويمارسون الصلوات اليومية، دونما حاجة إلى تنفّج أو ادّعاء أو نرجسية أو أدلجة. يعبدون الله على فطرتهم، وكفاهم ذلك. للدين وقت وللدنيا الوقت الأكبر. رأيت هذا في بيتي ومخيمي ومدينتي كلها، في الستينات والسبعينات الغاربة. وكان الناس آنذاك، طيبين متحابين متعاونين، قلما تثور بينهم زوبعة فتعكّر مزاجهم وتحيل حياتهم إلى ضغوط وتوترات لا تنتهي، كما هو الحادث في بلادنا، منذ أفول ذينك العقديْن، وحتى هذه اللحظة.
وبناءً على ما سبق، لن أخوض في التفاصيل، التي يكمن فيها الشيطان، مثلما يقال عادةً، وكما هي الحقيقة. بل سألجأ إلى التجريد والتعميم، فأسأل سؤالاً بريئاً، عتيقاً جداً وعقلانياً جداً مع ذلك، وهو: لمَ الأديان؟ وما فائدتها؟ وما غاياتها؟ السؤال الأول أجبنا عنه في مفتتح المقال بشكل خاطف، وأجاب عنه هيغل بعمق فريد، حين عرّفَ الإنسان بأنه [حيوان متديّن] بمعنى أنه الوحيد بين الكائنات الذي يشكّل له الهاجسُ الديني ميزةً خاصة ويدخل في صميم ماهيته، وأما السؤالان الثاني والثالث، فلقد أجاب عليهما ألوف المفكّرين والمتأملين والفلاسفة، على مرّ الزمن: أجابوا إجابات، هي أيضاً بالآلاف، كلٌّ حسب رأيه ورؤيته ومنطلقه.
لذا لن أستشهد بهم ها هنا، لأسبابٍ منها، أنني لا أتذكّر في هذه البرهة، ولا واحدةً من كل تلك الإجابات. من هنا سأعود لطرح السؤالين إياهما، وسأحاول أنا بدوري، بحقِّ أنني ولدتُ بشراً كالبشر، وانتسبتُ بالتالي إلى هذه المخلوقات التعيسة، أن أجيب!
فائدة أي شيء وغاية أي شيء في نظري هي الإنسان. إسعاده والتخفيف عنه، وتحويله، بقدر الإمكان، من كائن كثيف الشقاء، إلى كائن بشقاء أقلّ. هل قلتُ quot; إسعاده quot;؟ آسف على فلتة لساني! فلا سعادة ثمة في هذه الدنيا، ما دمنا نعرف ونحمل وعينا الشقي على كواهلنا. وعينا بأننا محكومون بالموت والفناء، مهما تطل الرحلة. ذلك أنّ الإنسان هو الكائن الفرد الذي يعرف أنه سيموت، ولذا فهو أيضاً الكائن الفرد الذي لن تكون له سعادة كاملة أو حتى منقوصة، مهما فعلَ ومهما حاول.
لذا، إني أنظر إلى الدين، نظرة براغماتية، وبالأخصّ لأنه quot;روحانيquot;. تناقض ومفارقة؟ فليكن. ما همّني. وعليه، فإذا كان الدين، لا يجعل الإنسان التعيس أقلّ تعاسةً، كي لا نتكلّم عن وهم السعادة، فما فائدته أصلاً؟
أما غايته فهي أن يفتح الإنسانيَّ فينا على الإنسان، أياً كان هذا الأخير. فإن فشلَ أيضاً في هذه المهمة الجلى، فيكون حينئذٍ بلا غاية.
وإني لأظنّ أنه، وعلى هذه الصورة الشائعة في وطننا العربي الكبير، قد فقدَ فائدته، وبالتالي غايته. فهو ها هنا، كما كان في أوروبا قبل قرون قليلة، سبب للتعاسات لا العكس. سبب مركزي وجوهري، في التضييق على حياتنا التي هي ضيقة أساساً، بما ترزح تحته من فساد الحُكّام وانعدام التنمية وشيوع البطالة وإدقاع الحال المادي والمالي.
ولماذا صار الدين على هذا النحو؟ لأنه سُيّس. ولأنه تدخّل فيما لا يجب أن يتدخّل فيه من شؤوننا الدنيوية الصغيرة والكبيرة. لأنه خرج عن كينونته الأولى، وهي أن يكون رابطاً روحانياً شخصياً ما بين البشري وربه أو أربابه. علاقة شخصية بالأحرى. علاقة توفّر الهدوء وبعض السكينة في حياة أرضية مادية لا تعوزها أسبابُ الشقاء. [كانت جدتي لأمي، تصلّي الصلوات الخمس، وعاشت أكثر من تسعين عاماً، وهي تقرأ فاتحة الكتاب على صورة خاطئة تماماً. فهل منعها هذا الخطأُ من عافية روحها ومن طمأنينتها الداخلية العميقة وثقتها برحمه الله الغفور الرحيم؟ كلا: كانت على أروع ما يكون الصلاح والثقة والنفس الراضية الرضية.] فما الذي يحدث الآن؟ يحدث أننا كلنا تقريباً، ما عدا أفراد، نفهم في أمور ديننا، أضعاف ما كان يفهم السابقون. ويحدث أن معظمنا، لا يرعوي عن التفيقُه والإفتاء والتعالم، بل الإيغال في معرفة دقائق أمور وتفصيلات الدين، الفقهية والتشريعية _ ومع هذا فمن من الطرفين، كما تعتقدون، هو الأقرب إلى الله؟ من ناحيتي أقول الأولون وأضع نقطة. أما هؤلاء، فسواء عرفوا أم لم يعرفوا، فهم أبعد عن جوهر وروح الدين، بما هو رابطة روحانية بين عابد ومعبود. رابطة وليس مؤسسة ولا سياسة ولا اقتصاداً ولا عِلماً. فالدين دين لا أكثر ولا أقل. أما أن يتدخّل في كل شيء على نحو حِشَري، فيُحيل الأشياء إلى أطياف، فكلا. أما أن يجعلك تُفتن بنفسك، فتكره الآخر، فكلا. أما أن يجعلك تختار التضييق والعُسر بدل التوسيع واليسر، في كل ما تلاقي في الحياة، فكلا. أما أن يجعلك تتوهّم بأنّ ثمة عِلماً إسلامياً، اقتصاداً إسلامياً، أدباً إسلامياً، قنبلة نووية إسلامية، بنكاً إسلامياً، فكلا. أما أن يدفع بك نحو أن تكره وتُخطّىء وتقتل مَن لا ينتمون إلى دينك أو مذهبك، فكلا. أما أن يدفعك دفعاً مرضياً إلى الاهتمام بالتفاهات وصغائر الأمور، ناسياً ومتجاهلاً العظائم والكبيرات، فكلا. أوروبا قالتها منذ قرون، وكان الدين ثمة، يُمارس أو تُمارس باسمه، أفظع وأقبح الأمور والجرائم. قالت كلا والتفتت إلى شؤون الدنيا والواقع والأرض، فكان ما كان من هذه الحضارة المادية والمعنوية الأعظم. أوروبا لم تسمح للدين أو للتآويل والتخريجات المتعددة له بأن تُفسد الحياة على الأرض. لقد عرفَ مُنوّروها أنّ في الإنسان مطلق الإنسان، حاجةً روحية عميقة إلى الميتافيزياء. لذا تركت له تحقيق هذه الحاجة الأزلية، عبر وسائل متنوعة، منها الدين ومنها الفن إلخ. أوروبا وجدت في الفنون على اختلاف أنواعها، مادة رائعة لتخصيب وتنظيف أعماق ودواخل الإنسان الحديث. فالأديان بحكم طبيعتها ونظرتها القوقعية إلى مَن هم خارجها أو ينتمون لدين آخر، أطلقت في وعي ولا وعي البشري، أبشعَ وأحطّ القوى القاتلة. فجاءت الفنون، بنزعتها الأُنسية العالية، وعقلانيتها الشاهقة وأفقها الأوسع، لتنظّفَ داخلَ المرء مما لحق به من أوشال وأوشاب تأثيرات الدين عليه.
بالتالي فإن الفنون هي المعوّل عليها لتملأ الفراغات في روح الإنسان الحديث. وهذا ما حصل فعلاً في الغرب. فنون جميلة عالية الأنسنة، بدل أن تغلق الآفاق، كما فعل التديّن المسيحي المذهبي، فتحتها على اتساعها، فكانت الخوالد من الأعمال، أدباً وفكراً وفلسفةً وسينما ومسرحاً إلخ. سَمَتْ كلُ هذه بالروح، فجعلت حاملها إنسانياً، ويفهم معنى الحياة ويفهم كيف يعيشها، لا أن يهدرها بغباء كما يفعل غيره في أماكن واسعة من كوكب الأرض.
لقد عرفَ المُنوِّرُ الأوروبي، العقلاني العلماني أولاً وأخيراً، أنّ الدين، ولسببٍ ماهويّ في طبيعته، ضيق. ومن الحكمة والعقل، ألا يُسمح له بالتدخل والتنغيص على المواطن. ذهبَ الأوروبي إذاً إلى براح العقل والفنون. فوفّر له هذا البراحُ، ما لم يجده في الدين، من سمو وتهذيب وترتيب وتنظيم وتقدير لمعنى الحياة الأولي والمتوسط والنهائي.
وإنّ هذا لم يحدث بعدُ في بلادنا. بل يحدث الآن العكس تماماً: نتسابق على حشر الدين في كل صغيرة وكبيرة من صغائر وكبائر حياتنا، فنغيّب العقل، لنكون أشبه حالاً بالمُنبتّ: لا ظهراً قطعَ ولا أرضاً أبقى.
عرفَ المنورُ الأوروبي، أن الدين ما لم يفتح الإنساني في دواخلنا على أخينا الآخر، فلا فائدة عملية أو روحية تُرجى منه. والدين لم يقم ولن يقوم بهذه الوظيفة العظمى في أزمنتنا الحديثة.
وهذا الوعي هو تحديداً الذي ينقصنا الآن وسينقصنا أكثر في الخمسين سنة القادمة. ففي هذه الخمسين، على الأرجح سنلجأ لتديين كل شيء وأي شيء. سندخل أعمق في القوقعة. وسنجأر أغلظ بصوتنا المتماهي مع صوت الله [ألا تلاحظون أنّ الله لا يحتكره أحد في العالم كما يحتكره المسلمون]: الله الذي هو كل شيء في حياتنا وبعيداً عنه لا حياة لنا لا بألف لام التعريف ولا بدونها. ولذلك فعلى الأغلب لن يكون لبشر هذه البلاد من مستقبل، فإما أن يكون المستقبل للبشر أو لله. لا يتسع الإناء للاثنين. والله، ما شاء الله، له مستقبل زاهر في هذه الأرض العربية من محيطها إلى خليجها. مستقبل هو على حساب مستقبل مواطنها وإنسانها بكل توكيد وتحديد. ذلك أننا بعد لم نفعل صنيعَ نيتشه، ولن نفعله في المستقبل المنظور. لذا علينا الاستعداد لمزيد من التعاسات: مزيد من الهرطقات: مزيد مِن أكاد أقول: انفلات الجنون!

* الديانات الوضعية الحية، إن لم تخني الذاكرة، هي الهندوسية والبوذية والجينية والسيخ والشنتو والزن، ولا يُعدم أن تختلط بعضها ببعض مع تحويرات وتعديلات وتواشجات في الكثير من الأحيان. وللمزيد من معرفة هذا الموضوع، يستطيع القارىء المحترم، أن يعود إلى quot;موسوعة الأديان السماوية والوضعيةquot; للدكتور محمد العريبي الصادرة عن دار الفكر اللبناني في طبعتها الأولى 1995.