لعل من أولى الظواهر التي تنبأ عن حالة الفشل العراقية شعبيا وحكوميا هو تلكم الأحاديث التي باتت اليوم حديث الساعة في داخل العراق وخارجه والتي تتعلق بترويج نظرية إمكانية عودة حزب البعث للحكم في العراق للمرة الثالثة خلال نصف قرن؟ والكل يعلم إن السقوط المدوي لهذا الحزب قد تم فعلا بالقوة الأمريكية وبالتأييد الشعبي العراقي الساحق والذي عبر عنه قبل ثلاثة أعوام ونصف من اليوم (نعال أبو تحسين) الذي دخل التاريخ العربي المعاصر باعتباره (النعال الذي أسقط حزب البعث بالضربة القاضية)!!، ولعل الترويج المشبوه لعودة البعثيين للسلطة هو البديل الموضوعي والوجه الآخر من صورة فشل العملية السياسية في العراق والتي تحولت على يد الأحزاب والعشائر والطوائف والمذاهب والجماعات العراقية المختلفة والمتصارعة لكابوس حقيقي وفرشت الطريق لحرب أهلية عراقية دامية وموجعة تطال برذاذها وفايروساتها المذهبية الإقليم المجاور أيضا؟ والمصيبة بل العلة الحقيقية لا تكمن في نظرية الديمقراطية ولا في مؤسساتها وآلياتها بقدر ما تكمن في النفسية العراقية وفي الخلل البنيوي والقصور الفكري والإفلاس السياسي للأحزاب العراقية التي ليس لديها ما تقدمه سوى النظريات المجردة البعيدة كل البعد عن إرهاصات الواقع المعقد، فلقد تحولت الديمقراطية وتبدل مراكز القوى والسلطة لعملية نهش حقيقية لقدرات العراق ولا نستطيع أن نلوم تدخل بعض دول الجوار أو حتى أساليب قوات التحالف دون أن نوجه اللوم لطبيعة الفكر السياسي العراقي القاصر الذي لم يستطع استيعاب حجم ودرجة المتغيرات التاريخية التي حدثت في العراق، فتهشم الدولة القمعية وانهيارها في الحرب الأخيرة لم يكن انهيارا لحزب فاشي أسود وإرهابي حكم العراق وعزله عن العالم وعن التغيرات الفكرية والسياسية الكونية فقط بل كان انهيارا حقيقيا لكل حالات وصيغ النفاق السياسي العراقي الذي استطاع النظام السابق الركوب على موجتها واستمر في التسلط الفج لأكثر من أربعة عقود عجفاء كانت أكثر من كافية لتعويق العقل السياسي العراقي ولتشويه نفسية الجماهير وأجيالها الشابة خصوصا التي أدمنت سياسة القمع الشمولية وتأثرت أبشع تأثير بسياسة عسكرة المجتمع العراقي وتقديس القوة يضاف لذلك كله حجم التأثير السلبي للظاهرة الدينية والمذهبية والتي كانت الشغل الشاغل للنظام البائد في أيامه الأخيرة وخصوصا بعد عام 1994 وانطلاق ما كان يسمى بالحملة الإيمانية التي وسعت مساحة التسلل والتسرب المخابراتي لمفاصل الزوايا والمدارس الدينية وخلقت جيلا جديدا من (المعممين البعثيين) كانت جيوش (المهدي والصحابة والطائفة المنصورة.. وغيرها) أهم واجهاتها العلنية،كما أن المجرم الطائفي (أبودرع) لا يختلف في المحصلة النهائية عن المجرم البعثي (أبو طبر)!! وهؤلاء قطعا لا يختلفون عن الإرهابيين التكفيريين والسلفيين من البهائم المفخخة !، كما تحول الإستقطاب والشد المذهبي لظاهرة مرعبة معاشة في مجتمع كان وإلى حد قريب لا يقيم اعتبارا كبيرا لطقوس الدين ولأشكاله وصيغه المتزمتة ! ولكن ما فعله البعث بالمجتمع العراقي عبر مصائبه وجرائمه وحروبه الفاشلة قد غير من شكل وطبيعة التوجهات المستقبلية.
ولا يخفى على أحد من متابعي الحالة العراقية بأن ما يسمى بحزب البعث في العراق ليس له وجود حقيقي على المستوى الشعبي لا في الماضي القريب ولا البعيد، فهو في سرقته للسلطة التي وثبوا عليها عام 1963 قد اعتمد اعتمادا تاما على جهود المخابرات المصرية وإمكانيات الضباط القوميين الإنقلابية! وذلك التحالف الواسع بين مختلف القوى العسكرية والعشائرية والطائفية ضد نظام اللواء عبد الكريم قاسم الذي كان يعيش وقتها عزلة حقيقية خانقة لفرديته وفشله التام في تأمين جماهيريته التي تآكلت فيما بعد ولطبيعته العسكرية المغلقة مما سهل على الإنقلابيين عزله في معقله الأخير (وزارة الدفاع) بعد أن مارسوا مذبحة حقيقية تجاه جماهير البسطاء الذين وقفوا يدافعون عن نظام لم يحسن الدفاع عن نفسه وأعدموه في إذاعة بغداد ولم يتركوا له حتى قبرا!! بل رموا جثته في نهر ديالى!! ويالها من نهاية لرجل هدرت بإسمه الجماهير ومع ذلك لم تستطع تلك الجماهير حمايته!! وهي الصورة التي تكررت كثيرا في تاريخ العراق القديم والحديث منذ مأساة الإمام الحسين (رض) وأهل بيته الأطهار في كربلاء وحتى اليوم.. وبعد أن إسترد العسكريون السلطة من (رعاع البعث) الذين غمروا بطاح العراق بالدماء والدموع طيلة تسعة أشهر كانت حافلة بالإعدامات والقتل والإغتصاب إنحسرت الهيمنة البعثية وعاد الحزب لحجمه الحقيقي كمجرد تجمع للسرسرية و(الهتلية) و(الشقاوات) والبلطجية، ولكن قوة نظام الرئيس السابق عبد السلام عارف التي تلاشت تدريجيا بعد مصرعه في حادث الطائرة المعروف شمال البصرة ربيع عام 1966 والتي تراجعت بعد إتيان العسكريين (للبدل الفاقد) السيد عبد الرحمن عارف بدلا من المفكر القومي المعروف والليبرالي السيد عبد الرحمن البزاز، قد رسخت من هيمنة العسكر على السلطة وهوالأمر الذي إستغله بقايا البعث في الجيش ومن عناصره المتقاعدين ليتآمروا ويجهزوا على السلطة ويدخل شقاوات البعث وبلطجيته بدءا من صدام وليس إنتهاءا بطه الجزراوي وعزة الدوري بالوانيت (البيك آب) الأمريكي المعروف ويزيحوا الرئيس التعبان ولتهيمن شلة ضباط القصر على السلطة ثم لتبدأ التصفيات التدريجية بالقضاء على الضباط الذين أدخلوا البعث للسلطة وغدروا برفاقهم ثم هيمنوا على كل مناحي الحياة وبطريقة حذرة لمعرفتهم بفقدان جماهيريتهم ثم أقاموا نظاما مركزيا شرسا يعتمد الشمولية المطلقة وتبعيث المجتمع العراقي بالكامل وفتحوا السجون والمعتقلات السرية الرهيبة كقصر النهاية السيء الصيت ومقرات الأمن والمخابرات وبقية التشكيلات الأمنية التي عززت من سلطة النظام مع إتباع سياسة خارجية راديكالية إتسمت بالشمولية والتطرف مناكفة بنظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كما مارسوا سياسة قمع القوى والأحزاب العراقية ومن مختلف التوجهات والتيارات مع حملات تصفية مستمرة بين صفوف القيادات البعثية بلغت الذروة في المحاولة الإنقلابية الفاشلة لمدير الأمن العام السابق (ناظم كزار) في 30 حزيران / يونيو1973 والتي تم خلالها القضاء على القيادات البعثية الأولى من أمثال مفكر الحزب (عبد الخالق السامرائي) الذي أعتقل ثم نفذ فيه حكم الإعدام بعد تسعة أعوام من الإعتقال الفردي في المخابرات وعلى يد أحد تلامذته وهوصدام حسين ذاته! وإستمر مسلسل التصفيات البعثية حتى صيف عام 1979 حينما شحذ صدام وعصابته سكاكينهم للإجهاز على الرئيس المتعب والمريض والكهل أحمد حسن البكر ليتم إبعاده بطريقة مسرحية ويبعد معه ثلثي القيادات البعثية بموجب سيناريوالمؤامرة السورية المزعومة، لتعدم قيادات بعثية فاعلة وتبعد قيادات أخرى هي اليوم باتت ترفع عقيرتها لتحاول استعادة ما تتصور أنه (ملك ضائع)!! والجميع يعلم بأن تلك القيادات المتقاعدة كانت مجرد ظلال باهتة في المنظمة الحزبية الفاشية، وكانت تنفذ أوامر زعيمهم الأوحد بكل طاعة، ولم يكن لهم أي دور حقيقي في المعارضة الشعبية الواسعة لإسقاط النظام، بل أنهم يحاولون اليوم إستغلال معاناة الناس وحالة الفشل والإحباط ليفرضوا تصورات وهمية عن قيادات حزب فاشل كحزب البعث، فهل يستطيع الرفيق (محمد دبدب) مسؤول الإتحاد الوطني السابق لطلبة العراق والرمز البعثي حاليا أن ينكر دوره في إيذاء الجماهير قبل أن يطرده النظام شر طردة وبشكل مهين عام 1979؟ وهل ينكر الرفيق (تايه عبد الكريم العاني) بأنه كان تائها في دروب الخوف من التصفية الجسدية لأعوام طوال ولم يتحرك قيد أنملة ليحاول اليوم أن يلعب دور (مهدي البعث المنتظر)!!.. ثم ماذا عن الرفيق وآخر سفير لصدام في الهند واللاجيء حاليا في اليمن السعيد (صلاح المختار) الذي ينشط في تدبيج البيانات حول النصر والتحرير والمقاومة وهو يعلم بإن القوة الحقيقية للبعث هي مجرد عبث وإن كل مساعدات ومؤامرات وألاعيب المخابرات السورية وتحركات العملاء البعثيين من الإرهابيين في مكتب قيادة قطر العراق الدمشقي بقيادة الرفيق الإرهابي (فوزي الراوي) ورفاقه من الإرهابيين لن تستطيع إحياء الموتى، فالبعث قد مات وشبع موت وعودته للسلطة مجرد وهم كبير لتيار مفلس ضيع العراق والأمة العربية... المتغيرات في العراق قادمة بشكل مؤكد ولكن البعث بكل رموزه التعبانه وتاريخه الأسود لن يكون له فيها أي محل من الإعراب.
التعليقات