كيف بإمكانك أن تصدر حكما تقويميا quot;محايداquot; بصدد الحكم على صدام حسين بالإعدام، وبصدد المحاكمة ككل، دون أن تكون بدورك موضع اتهام، سواء من ضحاياه أو من أزلامه ومريديه وأيتام نظامه !؟ ومن ذا الذي يضمن لك أن لا يصدر بحقك حكم مواز بالإعدام على غراره، من هذا الطرف أو ذاك، لمجرد إبداء رأي خارج إطار الاصطفاف quot; الإجرائي quot; مع الضحية أو الجلاد !؟
ضحاياه من الشيعة، ومعهم quot;الديمقراطيون المحدثونquot;، قد يتهمونك بـquot;الصدّامية quot; أو بـتلقي كوبونات الكاز والمازوت، وربما الفحم الحجري، حتى وإن كنت أفنيت حوالي ثلث عمرك من الكفاح ضد الديكتاتورية وفي زنازينها، سواء في شكلها quot;العفلقي ـ السنيquot; أو شكلها quot;الأسدي ـ العلويquot;!
أما بعض الإخوة الأكراد quot; الثأريينquot; فلربما لن يتورع عن اتهامك بالعروبة الشوفينية، حتى وإن كنت لا تؤمن أصلا لا بالعروبة ولا بالقومية، وتعتبر القومية، والإيمان بالله، السببين الأساسيين للمذابح الكبرى في تاريخ البشرية ؛ أو كنت أول عربي، فرد، يرفع شعار quot; حق الشعب الكردي السوري في تقرير المصير quot;، وتحمل لقب quot; صديق الشعب الكردي quot; ووساما كرديا مصكوكا في عاصمة مسعود البرزاني، وممهورا بخاتم صلاح بدر الدين، كما هي حال كاتب هذه السطور !؟
وأما بعض حملة الكوبونات الحقيقيين، وكهنة الأكاذيب والأساطير الوطنية والقومية، فربما لن يتورعوا عن اتهامك بميولquot; شيعية quot;، لمجرد أنك تنحدر من أسرة تمت للشيعة بصلة قربى، حتى وإن كنت لا تؤمن بالله ولا ملائكته ولا رسله ولا كتبه ولا باليوم الآخر، كحال كاتب هذه السطور الذي لم يتورع واحد من quot; مثقفيquot; زواريب حي ركن الدين الدمشقي، قبل عدة أشهر، عن اتهامه بـ quot; الدفاعquot; عن حزب الله quot; لأسياب طائفية quot; لأنه لم يصفق لعصابة أولمرت ـ حالوتس ـ بيرتس وهم يشوون الأطفال اللبنانيين بالقذائف الفوسفورية وقذائف اليورانيوم المنضب ! ولم يشفع له من هكذا تهمة حتى quot; المضبطة التوثيقية quot; التي وضعها ضد حزب الله ومسؤوليته، ولو الجزئية، بالاشتراك مع كريم بقرادوني، عن اختطاف القائد الكتائبي اللبناني بطرس خوند وتسليمه لسورية، ولا المساهمة في فيلم وثائقي هولندي ـ لبناني، هو الأول من نوعه، يثبت وجود خوند في السجون السورية ! كما لم يشفع له، والحديث دوما عن كاتب هذه السطور، وجود عشرة من مثقفي إسرائيل المناضلين اليساريين على قائمة صداقاته العلنية، لا السرية (!) كما يفعل الآخرون. بل ربما كان الانتماء quot;الأيديولوجيquot; لهؤلاء الأصدقاء تهمة بحد ذاته، طالما أن معيار quot; النقاء الديمقراطي quot; اليوم هو مصادقة نماذج على غرار أوري لوبراني وومثليه في كردستان والمختارة وقريطم والأرز، لا نماذج على غرار أميرة هاس ونسيم آلوني ودافيد غروسمان و ليئا أبراموفيتش وفيليتسيا لانغر أو ليئا تسيمل، الذين واللواتي نعتز بشرب أنخابهم في وضح النهار !
تشكل قضية محاكمة صدام حسين وبعض أعوانه واحدة من الأحداث التاريخية الكبرى والنموذجية جدا ؛ لا كمناسبة لاتخاذ مواقف مؤيدة أو شاجبة، فليس ثمة ما هو أسهل من الاصطفاف الإجرائي quot; الأبيضquot; أو quot; الأسود quot; ؛ ولكن لتفحص quot; ثقافتناquot; الانتقائية على المستويين الشعبي و النخبوي إزاء مفاهيم ما قبل الحداثة والديمقراطية، من قبيل : الثأر، الانتقام، شخصنة الصراع السياسي، الانتماء الطائفي، quot;العدالةquot; الانتقائية... إلخ. ومن المعلوم، وربما البدهي، أن الثقافة الانتقائية هي المضاد التاريخي المعادي هستيريا للثقافة النقدية ولكل ما يمت لها بأدنى صلة.
أيضا ؛ بقدر ما هي مناسبة نموذجية لتفحص quot; ثقافتناquot; نحن، هي، وبالقدر نفسه، مناسبة لتفحص ثقافة quot; الآخر quot; على هذه المستويات والصعد كافة. وأعني بالـ quot; آخرquot; أولئك الذين رتبوا وأداروا ووجهوا هذه المحاكمة، وإن من وراء الكواليس وبالريموت كونترول؛ والذين نصبوا أنفسهم، ونصبناهم نحن ( أو قسم كبير منا)، مرجعية لكل ما هو مضاد وبديل للمفاهيم المذكورة؛ أو على الأقل فرضوا أنفسهم على هذا النحو لأن التاريخ يكتبه المنتصرون.
ثمة أسئلة مفتاحية كبرى على هذه الأصعدة لا بد من طرحها :
ـ ما معنى أن يخرج آلاف الشيعة للتظاهر فرحا بقرار إعدام الطاغية، في الوقت الذي ترتكب فيه ميليشيات شيعية، رسمية وغير رسمية، جرائم تخجل منها، أحيانا، حتى جرائم الطاغية نفسه !؟
ـ وما معنى أن يخرج آلاف الأكراد لعقد حلقات الدبكة وفتح زجاجات الشمبانيا احتفالا بقرار جز رأسه، في الوقت الذي لم تجف فيه بعد دماء عمال مصنع quot; طاسلوجة quot; الذين ذبحهم قبل عدة أسابيع عسكر حكومة كردستان والرئيس quot; الاشتراكي ـ الديمقراطي quot; جلال الطالباني، وفي الوقت الذي تصدر فيه محكمة برزانية حكما بالسجن لمدة ثلاثين عاما ( فقط لا غير !) على الدكتور كمال سيد قادر بسبب... مقالة !؟
ـ ما معنى أن يخرج آلاف السنة للتظاهر رفضا لقرار المحكمة، في الوقت الذي يعرفون أن عرش quot; فقيدهمquot; لم يكن له أن يرتفع إلى هذا المدى الشاهق لولا جماجم الآلاف من مواطنيهم الشيعة، ولم يكن له أن يترسخ عقودا عديدة ومديدة من الزمن لولا غوص قوائمه الأربع في... المقابر الجماعية التي ابتلعت شركاءهم في الوطن !؟
ـ وما معنى أن يخرج علينا رئيس الوزراء نوري المالكي ببيان يطالب فيه الناس بالتعبير عن فرحهم بهذا اليوم quot; التاريخي المجيد quot;، في الوقت الذي نعرف ويعرف الجميع أن من يتحدث كان حتى الأمس القريب رئيسا لعصابة إرهابية في حزب الدعوة تمارس الاغتيال السياسي، ولم يزل الرئيس الأعلى لعصابة وزارة الداخلية التي تثقب رؤوس السجناء بالمثاقب الكهربائية وتفتح بطونهم وظهورهم بالمشارط وسكاكين المطبخ!؟
ـ ما معنى أن تخرج علينا حيزبون وزارة الخارجية البريطانية بتصريح تعلن فيه عن سعادة حكومتها بحكم الإعدام، في الوقت الذي نعرف فيه أن حكومة بلادها ( ومعها شقيقاتها الأوربيات ) ألغت العمل بحكم الإعدام منذ المصادقة على البروتوكول السادس والبروتوكول الثالث عشرللمجموعة الأوربية لحقوق الإنسان ( ECHR ) في العام 1997 !؟
ـ وما معنى أن يخرج علينا الأبله جورج بوش، ومعه بقية زعران وأفاكي البيت الأبيض و الإليزيه و 10 داونينغ ستريت، للتعبير عن فرحتهم بهذا quot; اليوم المشرق في تاريخ البشرية quot;، في الوقت الذي نعلم ويعلم الجميع أن القسم الأكبر من المجازر التي يحاكم عليها الطاغية اليوم، لم يكن بالإمكان القيام بها، أبدا، لولا الغطاء الأميركي ـ البريطاني ـ الفرنسي، والتسليح الأميركي ـ البريطاني ـ الفرنسي، الذي قدمه له هؤلاء مكافأة على شنه حربه المجنونة ضد إيران طيلة ثماني سنوات أكلت الأخضر واليابس وايتلعت مليونا من الضحايا على طرفي الحدود !؟
ـ ما معنى كل هذا الترحيب الأميركي ـ الفرنسي ـ البريطاني بقرار المحكمة، واعتباره ما جرى quot; انتفاضة للعدالة بوجه الطغيان الذي قتل الناس بالأسلحة المحرمة quot;، في الوقت الذي يعمل بلطجيو الدول الثلاث، ومعهم quot; قرضاياتquot; بيروت ( سعد الحريري والسنيورة وجنبلاط )، وفي هذه الأيام تحديدا، لعقد جلسة طارئة مشتركة لـ quot; وكالة الطاقة الذرية الدولية quot; و quot; المنظمة الدولية للحفاظ على البيئة quot; في جنيف من أجل تبرئة إسرائيل من استخدام اليورانيوم المنضب والمخصب في لبنان !؟
ـ وما معنى أن يحاكم صدام حسين ونظامه من قبل الدول الثلاث إياها، عبر أزلامهم من سفاحي بغداد الجدد، على قتل أهالي حلبجة بالأسلحة الكيميائية، في الوقت الذي يستمر فيه نظام العائلة الأسدية في سورية، ومنذ أواسط الثمانينيات على الأقل، بتجريب الأسلحة الكيميائية والبيولوجية على العشرات من المعتقلين السياسيين السوريين، والعرب الآخرين، في معتقل quot; خان أبو الشامات quot; السري، وفي الوقت الذي ترفض هذه الدول فتح الملف لمجرد أن البرنامج البيوـ كيميائي قام في قسم كبير منه على دعم وزارة الدفاع الفرنسية ( وليس الكورية الشمالية، كما قد يظن البعض!)، وفي الوقت الذي يهدد فيه كاتب هذه السطور، ويحذر من مغبة التطرق لهذا الموضوع تحت طائلة quot; الملاحقة القانونية بإفشاء أسرار تمس المصالح الأمنية العلياquot; لدولة شعارها الرسمي Liberteacute;, Eacute;galiteacute;, Fraterniteacute; !؟
ـ ما معنى أن يتنمر قاضي صدام حسين وينتفخ كطاووس أجوف قبل أن يطرد محاميا مثل رامسي كلارك من المحكمة ويتهمه بـ quot; إهانة الشعب العراقي quot; لمجرد رفضه الاعتراف بشرعية المحكمة، في الوقت الذي يلبس فيه هذا القاضي، ومدعيه الطائفي العام، جلد أرنب عصبي جبان حين يقوم جنود الاحتلال باغتصاب طفلات قاصرات، والاعتداء على كرامة المعتقلين في أبو غريب ومسالخ وزارة الداخلية، دون التجرؤ على إصدار مذكرة توقيف واحدة بحق أي من قتلة ومجرمي رامسفيلد، أو من قتلة ومجرمي عبد العزيز الحكيم وسفاحيه الذين يقصّبون أجساد المعتقلين بالفؤوس والبلطات !؟
ـ وما معنى الحديث عن طاغية قتل وشرد خمسة ملايين من شعبه ومن شعوب الجوار خلال أربعة عشر عاما، في الوقت الذي قتل وشرد فيه قضاته ضعف هذا العدد خلال أقل من أربعة أعوام.. والحبل على الجرار!؟
بإمكان ضحايا الطاغية، ومعهم quot; الديمقراطيون quot; المحدثون والقدامى كلهم، لا أن يرحبوا بقرار هذه المحكمة القرقوشية فقط، ولا أن يرقصوا ويفتحوا قناني الشمبانيا ويعقدوا حلقات الدبكة وحسب، بل وأن يطالبوا أيضا بسحل الطاغية وعصابته وتقطيع أجسادهم، كما اقترح أحد هؤلاء quot; الديمقرطيين quot; من الليراليين الجدد،مبشرا ومنذرا بالمزيد من حفلات الإعدام العادل ! هذا حقهم طالما أن ثقافة الثأر والدم والموت والانتقام وشخصنة الصراع وتطييفه أو قومنته هي ثقافة هذا الغرار من البشر. وبإمكان زبانية الطاغية وأيتامه من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، ومعهم مناهضو العولمة والإمبريالية، المحدثون والقدامى كلهم أيضا، أن يعلنوا الحداد ويكرسوا الخامس من نوفمبر بوصفه يوما أسود في تاريخ العدالة، أو يوما عالميا لــ quot;العدالة الانتقائيةquot;، كما اقترح أحد مرتزقة الكوبونات من جلادي عبد الناصر سابقا وجلادي حافظ الأسد لاحقا ! هذا أيضا حقهم، طالما أن ثقافة quot; العدالة الانتقائية quot; هي بالضبط ما تربوا عليه ورضعوا حليبه منذ نعومة أظفارهم العقائدية، وطالما أن الموت والقتل لا يكتسبا أي معنى في قواميسهم إلا حين يمسا أبناء جلدتهم الأيديولوجية، سواء أكانت هذه الجلدة ذات ملامح قومية أو ربانية أو حتى ماركسية !
لكن، بالمقابل، من حقنا أن نسأل الصنف الأول : هل تريدون محاكمة شخص / أشخاص أم محاكمة تاريخ وثقافة ومنظومة أفكار !؟ إن كنتم تريدون الشكل الأول من القصاص، فإن ما جرى ويجري هو تطبيق خلاق لعدالة غير مسبوقة في دقة استواء كفتي ميزانها ! أما إذا كنتم تريدون الشكل الثاني من القصاص، فأبسط ما يمكن قوله هو أن الصفة الأولى التي يجب أن يتحلى بها القاضي هو أن لا يكون مجرما أو من أصحاب السوابق، ويستطيع quot; قطع quot; يدي ابنه السارق بالقدر نفسه الذي يستطيع quot; قطعquot; يد واحدة لسارق آخر لا يمت له بصلة قرابة، ويرفض مبدأ القتل، سواء أكان quot; عادلا quot; أو جائرا. لأن القاضي، سواء أكان فردا طبيعيا، أو جهة اعتبارية، أو ثقافة، لايمكن له أن يبشر بحياة بعض الناس حين يرى أن موت بعضهم الآخر يمكن أن يكون وسيلة لتحقيقها. وحتى ذلك الحين الذي يتوفر لنا فيه مثل هذا القاضي، بإمكان بعضنا الاحتفال بهذه المحاكم أو التنديد بها، وإطلاق ما يشاء من أسماء عليها. وبإمكان بعضنا الآخر أن يردد مع شاعر لبنان العظيم الياس أبو شبكة في quot; أفاعي الفردوس quot; : وقضاة عُمْيٌ هم قضاة العُور! لكن الاسم الوحيد الذي يليق بما جرى ويجري، والاسم الوحيد سيرسخ في ضمير الثقافة النقدية وحملة لوائها، هو أنه الكرنفال الدولي الأكبر للدعارة الحقوقية في تاريخ البشرية!
بروكسل ـ 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006
التعليقات