بغض النظر عن ثقل، وسمعة، وفاعلية الأسماء الموقّعة على عريضة الدفاع عن وزير الثقافة والإعلام إياد مدني، تعكس المبادرة شيئاً من مجانية المواقف، المتأتية أصلاً من فراغ مزمن في البناءات الثقافية، ومن وعي مرتبك إزاء المتغيرات، إذ تعني فيما تعنيه الاصطفاف إلى جانب المؤسسة ممثلة في الوزير ضد فريق يُزعم أنه بصدد تعطيل محاولاته لتحديث الوزارة وتطوير بناها، كما تعني، وإن بشكل لا واع، التطابق شبه الكامل مع تصوراته وآليات عمل فريقه لتفسير وتنفيذ المعنى الوظيفي للثقافة، وهو ما ينذر بإفراغ عملية التحديث الثقافي من معناها، والخروج عن جوهرها إلى الهامش، أي العودة بالفعل الثقافي إلى حدة الاستقطاب القائم على تجاذبات أوهام فريق يتلبس الحداثة، مقابل فريق يدعي الحفاظ على قيم الأصالة وثوابت الهوية.

ولا شك أن حماس بعض المثقفين واندفاعهم المبالغ فيه للتوقيع على العريضة انما تم للاعلان عن امتنانهم الشخصي للوزير، نكاية بالفريق المحافظ، مع العلم أن الوزير ليس شخصاً بقدر ماهو حالة تحتّم بروزها أو إبرازها على هذه الصورة المنفتحة، وفي هذا الوقت بالذات، للتعاطي مع مهبّات العولمة، وضرورة الاستجابة العصرية لاشتراطاتها التحديثية الجارفة، دون انتقاص بالتأكيد من فرادة وأسلوب الوزير، أو التقليل من قدراته أو مرئياته التنويرية المثبتة قولاً وعملاً على أرضية المشهد الثقافي.

لا تخلو مبادرة الانتصار للوزير من رواسب ومقاصد سياسية، وهو أمر لا يفترض بالمثقف التورط فيه، أو الرهان عليه كثيرا، فتسييس الفعل الثقافي يحيل المثقف إلى مجرد بيدق صغير في حرب هبائية مفتوحة على كل الاحتمالات الخاسرة، فقد تزيحه عن مشروعه الحقيقي كما يتمثل في النص الحر، المستقل، المصنّع في مختبرات الوعي لا ردات الفعل الآنية. المبرأ من أمراض الأيدلوجيا والتحالفات الطارئة، وهو ما يستلزم تموضعه في عمق المكمن الثقافي، وعلى مسافة محسوبة بدقة ونزاهة ووعي من برامج المؤسسة ومخططاتها.

من الشجاعة والثقافة quot; الاختلاف quot; مع quot; الآخر quot; حول الوزير، ومن أجله، إذ ليس من الضروري دوام الاشتباك المجاني مع أجندته، أو افتعال المعوقات المؤدية إلى التشكيك في نوايا وفاعلية الحراك الثقافي. ولكن من الجرأة والنبالة والحداثة أيضاً quot; الإختلاف quot; مع الوزير وفريق عمله، وآلية عمله، فيما يتعلق بجوهر ذلك الحراك، أي المعنى الأحدث والأجدى للثقافة، وهو ما يحتّم الكف عن التنادد اللا مبرر مع التيار المحافظ، والامتناع الواعي عن التعاطي مع كافة أطياف الوعي الديني كخطافة معوّقة للفعل الثقافي.

ذلك يعني ويستوجب الالتفات إلى العطالة التكوينية المزمنة في المشهد الثقافي، ومعالجة اختلالاته البنيوية، كما تتمثل في عطالة المثقف ذاته، وبؤس تطلعاته، الناتجة أصلاً عن نظام تعليمي قاصر، مهمته انتاج الوعي الزائف، وعن حاضن اجتماعي هش وغير ناقد أصلاً، وعن خطاب اعلامي رافل في التقليدية، مفرغ من الروح اللازمة لمثاقفة اللحظة، وعن إنتاج درامي تورط هو الآخر في التهييج والتحريض والاستخفاف بحقيقة المعنى الوظيفي للثقافة، كما تمت ترجمة كل ذلك العطب في مؤسسات ثقافية ليست سوى ملاذات للعاجزين أو المتقاعدين عن انتاج المعرفة من أشباه المثقفين.

الوزير وفريق عمله الجديد يؤكدون بحضورهم ورعايتهم الشخصية للمناسبات الثقافية، وبخطواتهم التحديثية اللافتة على جملة من المتغيرات الجادة في خطاب المؤسسة الثقافي، وهو حق المؤسسة الرسمية في استعراض تصوراتها، للتدليل على نواياها الحقيقية لمرحلة حرجة من مراحل التنمية حيث تحاول القيادة السياسية تفادي أخطاء مرحلة من مراحل التنمية العرجاء، التي تم بموجبها التقليل من أهمية الثقافي لصالح المادي، وعليه يحق للمؤسسة الثقافية بما هي امتداد للسلطة السياسية، التفاعل مع كافة الشرائح الاجتماعية، واستقطاب الفاعل من الأسماء، وحتى استدماجها في مشروعها التحديثي بكل الوسائل الترغيبية.

وبالمقابل يحق للمثقف أيضاً أن يسائل المؤسسة الثقافية، وبل يتوجس من بعض برامجها أو يتحفظ على شيء من أجندتها، التي جاءت لتلبي المتطلبات النرجسية أو الشكلية لبرجوازية المثقف الصغير، ولا تستجيب لمطامحه الكبرى المتأتية من مخاض تاريخي على درجة التعقيد، أو هذا ما يفترض في المثقف الحقيقي، الذي يحتفظ على الدوام بمسافة مدروسة بينه وبين المؤسسة، للحفاظ على استقلاليته، والامتناع الطوعي والواعي عن الانجرار إلى طموحاتها، التي قد لا تتناسب مع مرئياته، ولا تتقاطع مع مفهومه المتجدد والفاعل للثقافة، فليس من الضروري ولا المحبّذ التطابق بين المثقف والمؤسسة، لئلا يقع في فخ النفاق الثقافي من أجل مصالح آنية أو شخصية.

الفعل الثقافي ليس مجرد سلسلة من الفعاليات المنبرية والكرنفالية كما قد يفهمه فصيل من المؤسساتيين وأشباه المثقفين. إنه فعل تنموي ينبث من التجربة الاجتماعية المتراكمة، ويتغلغل في عمقها كخبرات، بل هو جوهر الحالة التنموية كما تحتمه صيرورة وغائية الفعل التاريخي لأي مجتمع، وبالتالي ينبغي أن يكون المثقف هو أحد العناصر الفاعلة فيه، بمعنى أن يحقق فيه معادلة التشارك تخطيطاً وممارسة، لا أن يكون مجرد أداة يموضعها السياسي في خانة مكانية أو زمانية للالتفاف على استحقاقات اللحظة، خصوصاً أن المتغيرات الأخيرة، الممنوحة أصلاً كهبة من المؤسسة وليس كنتيجة طبيعية لوعي المثقف ونضالاته، تتشكل تحت إيقاع مفهوم أحدث، ونوايا أفصح وأرحب لمعنى المواطنة.

لا أعتقد أن العودة إلى حرب العرائض يفيد الثقافة أو الوزير بشيء، بل العكس، فمثل هذه الخطوة الفارغة من المعنى تعطي الطرف المتعنت شرعية محاربته وتقويض برامجه بعرائض مضادة تأخذ الفعل الثقافي برمته إلى الهامش، فيما تستلزم اللحظة شيئاً من التوجه الجاد إلى جوهر الفعل الثقافي، والإكثار من الطرق الودود والغيور على مفاصله الحيوية، أي quot; الاختلاف quot; الحر والمنفتح والواعي مع الوزير وفريق عمله، وعدم ممالأته بالاصطفاف الساذج ضد فريق يبشّر هو الآخر ببوادر زحزخة يمكن التحاور مع ما يتبرعم منها، دون التقليل من خطر الشق المتشدد من ذلك التيار في محاولاته لاجهاض أي عملية تحديثية، ففي النهاية إياد مدني ليس وزيراً للتطرف الثقافي، سواء الليبرالي منه أو المحافظ. إنه وزير لكل المثقفين.

www.m-alabbas.com
[email protected]