أثير مؤخرا موضوع العلاقة بين الدين والعقل، وتسبب ذلك في تأجيج مشاعر المؤمنين، فالملاحظ أن المؤمنين بعقيدة ما يرون أنهم، دون سواهم، الأقرب إلى العقلانية، فيما أصحاب العقائد الأخرى هم الأبعد. ويذكرنا هذا الجدل المستحدث في أوائل الألفية الثالثة للميلاد، بما كان جاريا في القرون الوسطى، فقد كان الجدل حول موضوع الصلة بين الدين والعقل هو المهيمن في ثقافة تلك العصور، وعرف المسلمون قضية الصراع بين النقل والعقل منذ وقت مبكر، وعرفت ذلك سائر الديانات الأخرى، ومن الغريب أنه كلما توهمنا بأن المسار الإنساني ينبغي أن يكون مسارا صاعدا لا يعود لمناقشة قضايا مرّ بها قبل قرون وقرون فإذا به ينعطف إلى الوراء، ويعيد تكرار القضايا ذاتها التي أثيرت قبل الف سنة، ويمكن القول بأن اللاهوت الإسلامي والمسيحي لم يترك لباحث شيئا جديدا في هذا الموضوع، فقد قتل الموضوع بحثا كما يقال، وبإثارة هذا الموضوع نسقط مرة أخرى في قضية أصبحت جزءا من جدل اللاهوت، وليس من واقع الحياة.
لقد مرت التجربة الدينية عبر التاريخ بمراحل كثيرة تكوينا وتفسيرا وتأويلا، فقد تعاقبت الديانات، وتعاقبت تفسيراتها، وفي كل عصر يهيمن نسق من أنساق التفسير والتأويل، وكلما كانت التجربة الدينية موضوعا للتحليل والاستنطاق فتحت الافاق أمام تأويلات جديدة، والنصوص الدينية ثرية بالإيحاءات، وتمنح مشروعية لكثير من التفسيرات إلى درجة ذهب فيها كثير من المفكرين إلى أن التجربة الدينية لها القدرة على مواكبة التطورات الاجتماعية إذا فتحت آفاق التفسير أمامها، ولم تحجز خلف تفسير ضيق ومغلق. وهذا الأمر هو الذي جعلها موضوعا جاذبا لاهتمام الفلاسفة، والمفكرين، وعلماء الاجتماع والنفس والتاريخ والانثربولوجيا، وسواهم، وآخر من أدلى بدلوه في هذا الموضوع، المفكر الالماني، وعالم الاجتماعquot;هابرمازquot;الذي أكد أنquot;المستقبل للدين العاقلquot;ففي مجتمع حديث، قطع الصلة مع الأساطير، واللاهوت، أو هو في طريقه لقطعها، لن يبقى من الدين غير صفةquot;العاقلquot;أي الدين المجرد عن الأطر الخرافية، والأيدلوجية، وكل صيغ العنف، وينبغي عليه ألا يدفع بالمنتمين إليه، والمؤمنين به لاقتراف أعمال عدوانية ضد الآخر، كما يقع اليوم في كثير من بقاع العالم.
ويري هابرماز أن تلك الفكرة يفرضها عالم متداخل من الديانات التي صار الحوار الحقيقي بينها ضرورة لا مهرب منها، وكل فرد ينتمي إلى دين ما ينبغي عليه أن يأخذ بالحسبان أنه عنصر في عالم متعدد من الثقافات والديانات والأعراق، والتخلي الكلي عن التفكير بمنتصر أو غالب، وعلى الوعي الديني أنquot; يعالج أولا: اللقاء المختلف معرفيا مع مذاهب أخرى، وأديان أخرى. ويجب عليه ثانيا: أن يقبل سلطة العلوم التي تمتلك في مجتمع اليوم حق احتكار معرفة العالم. ويجب عليه أخيرا: أن يتقبل المقدمات المنطقية الخاصة بالدولة الدستورية، وهي مقدمات تنبثق من أخلاق غير دينيةquot; وإذا تنكر الوعي الديني لحالة التأمل العقلي، فسوفquot;تفجر الاديان التوحيدية طاقة هدامة في مجتمعات حديثةquot;. والمعنى الذي يقصده هابرماز بـquot;الدفع التأمليquot;هوquot; التأمل، والتفكر، والتدبر، والنقد المزدوجquot;.
ينتظم نقد هابرماز في الإطار العام الذي استحدثته laquo;النظرية النقديةraquo; التي وضعت في اعتبارها نقد الميتافيزيقيا الغربية، ومحاولة إعطاء بُعد اجتماعي للممارسة العقلانية بعيداً عن الاختزال الذي مارسته الفلسفة والدين من قبل، ومن أهم الركائز التي استندت إليها النظرية النقدية، هو منظورها النقدي للظواهر الفكرية والاجتماعية، بما في ذلك الظاهرة الدينية، وذلك لا يمكن تحقيقه إلاّ بالانفصال الرمزي عن تلك الظواهر، ووضع مسافة تمكّن المنظور النقدي من ممارسة فعاليته، مطوراً موقفاً مختلفاً، يرتب العلاقات بين الظواهر المدروسة بمعزل عن الخضوع والسيطرة التي تمارسها تلك الظواهر. وعلى هذا فإن أولى مظاهر الاشتغال النقدي في هذه النظرية تشكلت في الأساس من خلال نقد المتون الفلسفية الكبرى في تاريخ الثقافة الغربية، وإبراز التناقضات الكامنة فيها، واستنطاق الأبعاد التي ترمي إليها. وأفضى ذلك العمل إلى العثور على بؤر تمركز حول موضوعات معينة، واستقطابات متكتّلة، تمارس نفوذاً في سياق التفكير العقلاني منذlaquo;عصر الأنوارraquo;إلى الآن، ولعل أبرز ما وقفت عليه النظرية النقدية، هو نسق التأمل الذاتي الميتافيزيقي الذي يستأثر بمكانة مهمة في الفلسفة الغربية التي تستند في بعض ركائزها إلى الدين. وطرحت هدفها النقدي; وهو تصفية هذا الضرب من التفكير، لأنه الأساس الضمني لمفهوم الحرية الذي ما هو إلاّ تعبير عن التمركز الذاتي، وقاد هذا إلى نقد العقل وممارساته. باعتبار انه أداة خاضعة لصيرورة التاريخ وتحولاته، وليس له قوة تعالٍ مطلقة ومجردة.
كل هذا معناه، بالنسبة للنظرية النقدية، إنها أنزلت كل الممارسات العقلية والدينية منزلة الواقع، وأخضعتها لشروط التاريخ وجردتها من أبعادها الميتافيزيقية، وبهذا فهي طوّرت ضرباً من النقد المباشر لتجليات العقل في المؤسسات ونظم الحياة والأيديولوجيا والثقافة، والحال فإن النقد تشعب فشمل البعد الذاتي للميتافيزيقيا، وهذا يكشف سعة المشروع الذي طرحته النظرية النقدية، وبخاصة حينما ربط أصحابها مشروعهم النقدي بإيقاع الحياة وتشعبّاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، لأن الأفكار لديهم، وبخاصة الفلسفة: لا تنفصل عن أسئلة العلوم الإنسانية، فهذه الفلسفة بحكم كونها نقدية وتسعى إلى صياغة نظرية في المجتمع، فإنها تتفاعل مع عطاءات العلوم الاجتماعية، لكن دون التسليم بكامل نتائجها، لأن النظرية النقدية تطعن في مصداقية السوسيولوجيا المسيطرة باعتبارها غير قادرة على تقديم تصوّر كلي لا يغرق في الشروح التجريبية أو المنطقية - الاستنتاجية.
ومع نقد الميتافيزيقيا الدينية قدمت النظرية النقدية تحليلاً نقديا للفلسفة الوضعية، واعتبرتها فلسفة علم قاصرة ومضللة، وعاجزة عن فهم الحياة الاجتماعية، وأنها فلسفة متواطئة مع السلطات التي تمارس قهراً للإنسان باعتبار أنها فلسفة الاتجاهات السياسية المحافظة، وأخيراً اعتبروا الوضعية عنصراً مساعداً في خلق أشكال جديدة من التسلّط يمكن تسميته بـlaquo;التسلّط التكنوقراطيraquo;. فالمفهوم الجديد للسلطة لم يعد ممارسة محتكرة من طبقة معينة، إنما هو تسلّط يتم من خلال قوة لا شخصية هي laquo;التكنولوجياraquo;. والحقيقة فان النقد شمل الاتجاهات العقلانية والتجريبية، ومن وراء ذلك الفلسفات المثالية والمادية. وفي الوقت الذي أكّدت فيه النظرية النقدية نزعتها النقدية دون مواربة لكل تجليات العقل الذاتية التي أسرت الموضوع في قبضة الذات سعياً وراء ذات مطلقة، فانها اعتبرت العقل نفسه حجتها النقدية، ولكن طبقاً لتصوّر مغاير لما أفضت إليه العقلانية الذاتية. وهنا انطلق النقديون في مسألة العقل والعقلانية من ملاحظة أساسية وهي: إن فلسفة الأنوار التي كان هدفها تحرير الإنسان انقلبت إلى ضد ذلك تماماً، إذ كرّست العبودية القديمة للإنسان. فإذا كان تابعاً للطبيعة من قبل، فإنه أصبح تابعاً للمجتمع، وعليه استمرت علاقات التبعية المبنية على الخضوع والتفاوت وإقصاء الحرية. وعلى وجه التحديد، فإن فلسفة الأنوار أفضت إلى ما يصطلح عليه هوركهايمر بـlaquo;اختفاء العقلraquo;.
دعوة هابرماز إلىquot;الدين العاقلquot;تدفع بالدين، وبالفكر الديني، ليكونا جزءا من حركة التحليل العقلي، لأن الظاهرة الدينية أصبحت حاضرة بقوة في نزاعات العالم المعاصر، وأصبح الهروب من تحليلها، وإعادة تأويلها هروبا عن ممارسة الدور الحقيقي للمثقف.
www.abdullah-ibrahem.com
- آخر تحديث :
التعليقات