يرى الفيلسوف الألماني (نيتشه) أن الحرب تنشأ من فكرة بريئة ومبررة هي الدفاع عن النفس، ولكن انشاء (وزارة الدفاع) يحمل سوء النية في الجيران أنهم يعدون لهجوم، وإذا كان كل طرف يستعد للدفاع عن النفس ويتسلح فقد بدأت الحرب فعلاً، ولاتحتاج إلا أن يشعلها أشد الطرفين خوفاً ويأساً. هذه هي فلسفة الحرب والتسلح.
لاتمر فترة تطول أو تقصر الا ونسمع عن مرور مسؤول غربي يقوم بجولة في المنطقة العربية ينهيها بصفقة بيع أسلحة متطورة بمليارات الدولارات. وفي مؤتمر أبو ظبي الذي رعته جريدة الاتحاد تحدث أحد الحاضرين عن صفقة التاريخ لأمريكا في المنطقة بمبلغ 60 مليار دولار ما هو أعلى من ميزانية نصف درزن من دول المقرودين؟
وتتدافع أمامنا مجموعة من الاسئلة: لماذا تشتري هذه الدول الأسلحة المتطورة وهي لاتملك قدرة صيانتها؟
ثم كيف تشتري سلاحاً سيصبح (خردة) لاغية بعد عشر سنوات؟
كيف تشتريها وهي تعلم أو لاتعلم أنها ستدمر في أعالي السماء أو قيعان البحار في الساعات الأولى من أي حرب عندما تشكل خطراً جدياً على صانعيها كما رأينا في الساعات الأولى من مواجهة السلاح الأمريكي والعراقي الذي هو أصلاً ليس إنتاجاً عربياً؟
ثم هل تستطيع هذه الدول استخدامها حقاً أم لابد من أطقم فنية مساعدة إذا وقعت الواقعة؟ ثم ضد من سوف تستخدم هذه الاسلحة صدقاً وعدلاً؟
هل نفعت هذه الأسلحة ضد اسرائيل حتى اليوم؟ أم زادت من وطأة استعباد الشعوب في قبضة دول تغولت؟ أم زادت من مرض عدم الثقة بالجيران ونشوب الحروب في المنطقة؟
كيف تشتريها وميزانيتها تئن تحت الديون الخارجية؟ ولكن بالمقابل أليس الأفضل لبعض دول المنطقة أن تضع يدها في يد الشيطان لو أدى الأمر لإنقاذها من جار عربي لاتأمن بوائقه؟
إن الغربي قد يبقي عليك ويمتص دمك بالتدريج، أما الجار العربي فينسفك نسفاً فيذرك قاعا صفصفاً لاترى فيه عوجا ولاأمتى! فلم يأت هذا الخوف المتبادل لولا وجود (فزَّاعة) في المنطقة.
ولكن أليست الدول العظمى هي التي تبقي على هذا التوازن الخبيث فتحافظ على (الفزاعة) ويستمر سيلان بيع الاسلحة مثل جهنم تقول هل من مزيد، وتحافظ على الهيمنة على المنطقة في حجر واحد يضرب ثلاثة عصافير. إنها لعبة ذكاء لايهنأ الغرب عليها.
لقد وصل الأمر بالاسلحة المتطورة أنها مزودة بكود كمبيوتري يمكن تعطيله في الجو أو الأرض في اليوم الموعود إذا أزفت الآزفة، وكتب على هذه الاسلحة منذ لحظة خروجها من مصانعها أنها لن تنصر من يستخدمها ضد من يملك أسرار تقنيتها، فهل يعقل أن يبيعك عدوك سلاحاً تتفوق به عليه؟ إنها حماقة لايقدم عليها هبنقة!
إذاً لماذا تشتري دول المنطقة هذه الأسلحة المتطورة؟
هل هي مجبرة على ذلك؟ وإذا كان كذلك فمن أين جاء ضعفها حتى رضخت الى هذا الحد؟
إن الأسلحة التي تدفع فيها الأموال مصيدة لكل مشاريع التنمية، لإن الأنظمة تدفع ثمن السلاح ليس بتقليص رفاهية النخب الحاكمة أو الحد من امتيازاتها، بل من جيب المواطن برفع أسعار المواد الأولية كي تستطيع سداد الديون.
إن الحاكم ينسى أن أعظم قوة تحميه ليست السلاح بل قوة شعبه التي لاتقهر، ولكن المشكلة في العالم العربي أن الحاكم لايسأل عما يفعل وكل ماعداه يسألون، والأمة تمارس الهجرة الخارجية والداخلية بالانسحاب الكامل من خارطة الوعي السياسي.
إن البلد الوحيد الذي هزمت فيه اسرائيل ولم تغن عنها ترسانتها من الأسلحة كان في مكان غير متوقع في أضعف بلد عربي في لبنان، ولم تكن القوة التي واجهت اسرائيل جيوش نظامية تملك أسلحة متطورة ولم يكن خلفها حكومة وكان البلد غارقاً في حرب أهلية.
كان ثم تحول الحال فوقع من جديد في قبضة الدول الخرافية!
الأسلحة خرافة. والحروب مصيدة وارتهان. وقد تستطيع دولة متخلفة أن تبدأ الحرب ولكن خاتمتها ليست في يد هذه الدولة، بل في يد الكبار الذين يمولون هذه الحرب بالسلاح، ويقررون من ينتصر في النهاية، ليس لمصلحة أحد الطرفين قطعاً، بل لمصلحتهم بالدرجة الأولى كما حكموا للعراق ضد ايران ولو بقتل الآلاف من الجنود الايرانيين بالاسلحة الكيمياوية بحيث رضي الخميني بالصلح وهو يقول إنني أفعله كمن يتجرع السم! ثم عادوا الكرة فحطموا العراق. ثم عادوا فلعبوا بالعراق مثل الجولف والبلياردو يرفعون من يريدون ويخفضون من عليه يغضبون ولا يرضون؟
نحن لم نفهم الغرب بعد، فهو داخلياً رائع بفعل آليات التوازن الموجودة بين العمال ورأس المال، وبسبب وجود الحريات، وترسخ الديموقراطية، وقوة الإعلام، وفصل السلطات، وسيادة القانون، ونقل السلطة السلمي، ولكن التوازن الداخلي في دول الغرب لايقابله هذا التوازن مع الخارج، فهم لايتعاملون مع شعوب تحاسبهم بل أفراد يسهل التفاوض معهم مسلطين على شعوب فقدت قدرة تقررير المصير، جاهزة لأن يعتلي ظهرها أي مغامر يدفعها للمسير بعصا بدون جزرة.
الغرب هنا لم يعد الغرب العادل بل مصالح شركات ومؤسسات عبر القارات تلتهم الشعوب الضعيفة في صفقات أسلحة مريبة.
إن الغرب يعرف أن هذه الأسلحة ميتة تشبه أصنام قريش لاتضر ولاتنفع، ولكننا نحن لم ندرك هذا التحول العالمي، والغرب يراهن على هذا العمى حتى اللحظة الأخيرة، فلماذا لايبيع هذه الأصنام، لقوم مازال يحكمهم السيف الأموي، يؤلهون القوة، ويعبدون حكامهم، ويصب عليهم الذل صباً مع كل شروق شمس، ولاينفعهم السلاح الا في زيادة الأغلال على الأعناق فهم مقمحون.
إن الغرب طوَّر كل أنواع الأسلحة واستخدمها، وخاض كل الحروب الدينية والقومية والعالمية، ولكنه وصل الى في النهاية الى طريق مسدود، ولم تكن هذه الخاتمة متوقعة كما لم تنتج من وصايا الانجيل وتعاليم المسيح، بل ولدت بكل بساطة من رحم التطور العلمي، فمع وضع اليد على السلاح النووي ونظائره من الكيمياوي والبيولوجي أدرك الغرب أن القوة صنم لايعول عليه، وانقسم العالم الى شريحتين شمالية تملك كل القوة وتتفاهم بدون قوة، وجنوبية لاتملك أي قوة ولاتتفاهم الا بالقوة، في منظر مفارق جداً.
الغرب يملك كل السلاح ولايستخدمه ونحن في العالم العربي لانملك أي نوع من التقنية ونتلمظ لامتلاكه، بما فيه الصنم النووي الذي ثبت أنه سلاح ميت ليس للاستعمال، وفي الوقت الذي نريد دخول النادي النووي نرى الإعلانات قد زينت مدخله بانه قد بدأ يغلق أبوابه ويودعه زبائنه، كمن يذهب للحج وعرفات فارغة.
إن ايران لم تنتصر على الشاه بالسلاح بل بالأيدي العزل والمقاومة السلمية في ثورة تحرر فيها الانسان من مرض القوة وهزم السلاح.
وفي تركيا حُظِّر على اربكان العمل السياسي فلم يستخدم اسلوب الجزائر بقطع الرؤوس بالفؤوس، بل حض أتباعه على أسلوب الانبياء بالصبر وتحمل الأذى (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ماكذبوا واوذوا حتى أتاهم نصرنا ولامبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) واليوم تتحول الصومال وأفغانستان الى بلد يضم العظام وهي رميم وبنية تحتية مدمرة.
إن المشاهد الناجحة هي من تركيا، لقد اجتمعت برجل مالي في اليابان فأخبرني أن تركيا ينتظرها مستقبل كبير ويمكن أن تتحول إلى قوة اقتصادية وسياسية مرهوبة الجانب، قلت له بسببين: التعليم والقضاء على الفساد (Corruption) أما الاكراد فمازالوا يلوحون ـ في قسم كبير منهم بالكلاشينكوف ـ وهو يهتفون بجي بجي كردستان؟ وحين أناقشهم أعلم عقم محاولتي أن العبرة ليست في بناء دول قومية خرافية كما فعل البعث العابث فحقن الحقد وحصد الكراهية والعنف؟ والمهم هي دول عدل أيا كانت كما تفعل كندا مع المهاجرين من كل فج عميق، ولكن بيننا وبين هذا الفهم مسافة ثلاث سنوات ضوئية؟
هل هناك استعصاء ثقافي في بنية العقل العربي والكردي والعجمي والبربري ابن المنطقة المتخلفة عموما؟
ستبقى الأمور هكذا وندفع الفواتير مع الفوائد المركبة حتى نعقل، ونعرف أن السلاح صنم، وأن القوة خرافة، وأن أعظم حرية هي تحرر الانسان من وهم القوة، وأن قوة الشعوب لاتقهر وهي أهم من تكديس السلاح، وأن التناقض العربي العربي هو الجوهري والأساسي؟
ظهر هذا واضحاً في زلزال الخليج الأخير ونسينا يومها اسرائيل.
وأن الصلح العربي العربي والعربي الكردي والعربي العجمي أهم من الصلح العربي الاسرائيلي، وأن الصراع العربي الاسرائيلي هامشي وجانبي ولو خسف الله الأرض باسرائيل لبقيت حروب داحس والغبراء. ولكن هل نعقل أليس منكم رجل رشيد؟
ويبقى السؤال الى أين تمضي رحلة تكديس سلاح ليس للاستعمال، وأمة تهوي الى قاع الفقر، وخطط تنمية تمشي الى الخلف؟
هناك وصفة ولكنها خارج منظومة تفكيرنا: فلاحاجة لنا بهذه الأصنام التي ندفع فيها دمنا، ويجب أن نتخلص من مصيدة شراءها، ونحافظ على أسلحة بسيطة لمكافحة الجريمة داخلياً، ونراهن على إعادة الثقة بين الشعوب وقياداتها، والتخلص من روح الغدر كأسلوب لتصحيح الأوضاع في العالم العربي. ولكن هيهات هيهات لما توعدون.
يبدو أن لا أمل أو نور في نهاية النفق المسدود ولن تتغير الأمور حتى تنضج الأمة وببطء من خلال المعاناة والعذاب الأليم وليس من خلال مانسطر من افكار.
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لايؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم).
يروى أن طفلاً يتيماً نشأ في كنف وصي فكان يأتي في نهاية كل عام فيجرد له حساب المال الذي تركه له والده. ولكن فقرة كانت تتردد بانتظام لم يكن الغلام قادراً على استيعابها. كان العم يردد ( وصرفنا كذا وكذا من المال ثمناً لنعال الجمال).
عندما شب الغلام عن الطوق وبدأ يفهم الحياة سأل وصيه: ياعماه كل سنة تقول لي أنك اشتريت نعالاً للجمال ولكن ماأعرفه أن الجمال لايوضع لها نعال!! قال الوصي: طالما عرفت فأنت أحق بمالك تتصرف به فأنت اليوم راشد.
ونحن في العالم العربي سوف نستمر في دفع ثمن نعال الجمال من الأسلحة حتى نرشد فنكف عن شراء هذه النعال.