ما هو الدور المطلوب من العلماء، وخاصة المتخصصين فى العلوم الاجتماعية، لخدمة مجتمعاتهم واوطانهم؟.
هناك انقسام حول إجابة هذا السؤال، فهناك من يرى أن دور العلماء هو صك وصياغة المفاهييم الصحيحة وضبطها كما فعل رواد النهضة والتنوير فى اوروبا، وهذا هو أعظم دور للعالم للمساهمة فى التغيير. وهناك من يرى أن على العلماء أن ينخرطوا فى النضال فى الشارع ويلتحموا بالجماهير من آجل تحقيق هذا التغيير. وبين هذين الحدين هناك درجات مختلفة من الخلط بين العمل المفاهيمى والعمل الحركى.
ينتمى الفيلسوف الكبير مراد وهبة إلى النوع الاول، بينما ينتمى عالم الاجتماع السياسى المعروف سعد الدين ابراهيم إلى النوع الثانى.النوع الأول يتهم بالمثالية والإنعزالية، والنوع الثانى يتهم بالبرجماتية وتطويع العلم لخدمة السياسة.
حدثت تحولت عند سعد الدين إبراهيم من أستاذ مهتم بتشريح الظواهر الإجتماعية إلى ناشط حقوقى يعمل من آجل الإرتقاء باوضاع حقوق الإنسان فى مصر إلى ناشط سياسى يتبنى مواقف سياسية يراها صائبة لخدمة وطنه، إلى معارض سياسى يسعى لتغيير الحكم من آجل ما يراه أفضل لبلده.... وخلال هذه الرحلة قدم خدمات جليلة لشعبه ووقع فى اخطاء جسيمة أيضا من تطويع العلم لخدمة السياسة، مثل تبنيه لمفهوم الديموقراطية الإسلامية، وهو مصطلح مختلق مشوه لا وجود له ويصب فى خانة أسلمة العلوم. ومثل دعمه للإسلاميين للوصول للحكم وزيارته لحماس وحزب الله، وهى زيارات سياسية وإن تخفت فى ثوب العلم الفضفاض، وأيضا مثل مقولته أن ثلثى المسلمين تحكمهم أنظمة ديموقراطية والذى طورها مؤخرا بأن ثلاثة أرباع المسلمين تحكمهم أنظمة ديموقراطية ناعيا الربع الخالى من الديموقراطية الإسلامية وهو المنطقة العربية. أتفق مع الدكتور سعد الدين إبراهيم فى هذا إذا كان يقصد أن ثلاثة أرباع المسلمين يعيشون تحت ظل أنظمة ديموقراطية وفقا لمفهومه عن الديموقراطية الإسلامية،وهو مفهوم مشوه عن الديموقراطية لا صلة له بالديموقراطية الحقيقية إلا فى اللفظ. أما إذا كان الدكتور سعد الدين إبراهيم يقصد الديموقراطية الليبرالية كما تعرفها المجتمعات الحديثة فما يقوله يدخل فى خانة أسلمة العلوم وتسييس المصطلح، فكل الدول الإسلامية تخلو من الحريات الدينية، ويكفينا قراءة تقرير منتدى بيو للدين والحياة العامة الصادر فى 16 ديسمبر 2009 فى 72 صفحة لنجد أن الدول الإسلامية تتصدر التقرير كأكثر الدول التى تضع قيودا على الدين وتمارس العنف الدينى ضد المختلفين دينيا..فهل توجد ديموقراطية حقيقية بدون حريات دينية؟، والكثير من الدول الإسلامية تضع الإسلام كدين للدولة فى دساتيرها، فهل تتوافق دينية الدولة مع الديموقراطية فيها؟. فهذا التوجه السياسى يجعل سعد الدين إبراهيم يصنف دولا مثل باكستان وافغانستان وماليزيا وبنجلادش... كدول ديموقراطية، فهل هذا كلام معقول؟.
نعود إلى العلماء المثاليين مثل الدكتور مراد وهبة فأنا اشفق عليهم حقيقة،فرواد النهضة الأوروبية كانت كتاباتهم تتلامس مع مجتمع يسعى للنهوض وللخروج من مأزقه ولهذا كان مستقبل جيد لهذه الأفكار الإصلاحية على مستوى التيار الرئيسى به. ولكن ماذا عن مجتمع يتهاوى كالمجتمع المصرى؟. إن نظرة سريعة على زى المرأة المصرية منذ عام 1970 وحتى الآن يعكس التغيرات المتسارعة للدولة المصرية تجاه الدخول إلى النفق المظلم، ولهذا اصبح الدكتور مراد وهبة وتلاميذه أقلية معزولة غير مؤثرة فى المجتمع المصرى.
يقدم الدكتور مراد وهبة رؤيته للديموقراطية وفقا للأسس الصحيحة للمفهوم، فهو يقول ومحق فى ذلك بأنه quot;لا ديموقراطية بدون علمانية quot;،ومعنى هذا أن من ينكرون العلمانية ينكرون بالضرورة الديموقراطية، ومن يقفون موقف عدائى من العلمانية هم فى الحقيقة يعادون الديموقراطية، ولكنه أيضا يأخذك بمثاليته المفرطة إلى ما هو ابعد من هذا فى أن العلمانية لا تعنى الفصل بين الدين والدولة وإنما هى أسلوب فى التفكير العقلى قبل أن تكون اسلوبا فى السياسة، ومعنى ذلك عندما يكون أسلوب تفكيرك علمانيا يكون فى إمكانك قبول فصل الدين عن الدولة وعكس ذلك ليس بالصحيح، ومن ثم فأن الفصل بين الدين والدولة هو نتاج تفكير علمانى يقبل ذلك، وهذا التفكير العقلى هو نتاج شئ آخر أسمه التنوير، ومن ثم قبل الحديث عن الديموقراطية علينا ان نبدأ بالتنوير ثم العلمانية ثم تأتى الديموقراطية كمحصلة لذلك....وأنا اتفق معه تماما فى البناء المفاهيمى الصحيح للديموقراطية وفقا لهذا التسلسل السلس.ولكنه لم يقدم لنا الحالة العكسية التى تعكس الواقع فى بعض الدول، فعندما اجتمع حفنة من المفكرين الامريكيين الذين يطلق عليهم الأباء المؤسسيين للدولة الأمريكية فى فلادليفيا لم يكن المجتمع الأمريكى يعيش هذه المثالية العقلية، فكانت العبودية والعنصرية والتمييز الفج ضد المرأة فى العمل وفى الأسرة ولم يكن لها حتى حق التصويت، ولكن هؤلاء العظماء بفرضهم قيم المجتمع الديموقراطى من أعلى من خلال دستور عظيم وبناء دولة المؤسسات وسيادة القانون والفصل بين السلطات جاءت النتائج مشجعة، حيث أن التفكير العقلى ذاته تغير من خلال فرض قيم الحداثة والديموقراطية بالقانون، نعم المجتمع الأمريكى وقتها رغم كل عيوبه يختلف عن المجتمعات الإسلامية من حيث تقبله لقيم الحداثة والتنوير ولكنه رغم كل ذلك كان ممتلئا بالمظالم وعدم المساواة بين البشر رغم أن المساواة هى أهم سمات الديموقراطية،فلا ديموقراطية بدون مساواة.
فى تركيا لم يفرض الجيش دولة المؤسسات والقانون مثل أمريكا ولكن تم فرض العلمانية والفصل بين الدين والدولة إجباريا، ورغم أن المجتمع التركى لا يصنف كديموقراطية ليبرالية إلا ان العلمانية والحداثة فيه تختلف عن مصر وباكستان والسبب يعود لهذا الفرض وليس للتنوير، فتركيا لم تمر بمرحلة التنوير ولا تعيشها حاليا ولكنها تعيش نوع مشوه من العلمانية على الاقل هو افضل من الاصولية المصرية والسعودية والباكستانية والإيرانية. ولماذا نذهب بعيدا ولدينا نموذج مصر، هل لو لم يفرض السادات الاصولية من خلال الدستور ومؤسسات الدولة والذى وصل لتوزيع الاسلحة البيضاء على الاصوليين فى الجامعات كان المجتمع المصرى وصل لهذا الانحدار؟. فبفرض السادت للاصولية الإسلامية من أعلى من خلال الدستور ومن أسفل من خلال الشارع تأكلت مدنية الدولة تدريجيا وازداد هذا التأكل فى عهد مبارك الذى لم يبذل أى جهد لوقف زحف الاصولية وبالتالى تدهورت أوضاع مصر بالشكل الذى نراه حاليا.
اتفق تماما مع الدكتور مراد وهبة فى ركائز الديموقراطية الأربعة والتى سماها quot; رباعية الديموقراطيةquot; والمتمثلة فى العقد الاجتماعى، والعلمانية، والتنوير، والليبرالية، ولكن هذه الركائز التى تمثل الديموقراطية الكاملة ليس لها جذور لا فى مصر ولا فى المجتمعات الإسلامية، وهو نفسه يعترف بأنه لا يوجد تاريخ للعلمانية فى مصر من إضطهاد فرح انطون إلى إغتيال فرج فودة. أما نظرية العقد الاجتماعى فقد جاءت لهدم مبدأ الحق الالهى،أى إنه ليس من حق الحاكم الإدعاء بأن سلطانه مستمد من الله وأنما من الشعب الذى هو مصدر السلطات وليس الله، ولكن ماذا عن المجتمعات الإسلامية التى تدعى إنها تحكم بما انزله الله، فما الحكم إلا لله، ومن لا يحكم بما أنزل الله فهو من الكافرين.. ولا نعرف فى ظل تعدد الأديان فى المجتمعات الحديثة أى اله هو الذى نحكم بما أنزل؟، وهو نظام اسوأ بكثير من مبدأ الحكم الالهى فى العصور الوسطى الاوروبية.أما إذا جئنا إلى مصطلح التنوير والذى يتمثل فى تحرير العقل من الدوجما ومن الثوابت ومن فكرة الإجماع ومن الإدعاء بإمتلاك الحقيقة المطلقة ومن ثقافة القطيع بحيث لا يكون سلطان على العقل إلا العقل نفسه، وكما يقول ابو العلاء المعرى quot; لا أمام سوى العقلquot;.. والسؤال كيف يتم ذلك فى ظل الإستعلاء الدينى والذى يشل التفكير العقلى أو فى ظل القيود الإجبارية المفروضة على العقل المسلم والذى أدت إلى ذبول وضمور هذا العقل وصفه الكاتب الإيرانى فريدون هويدا بأنه quot;إنسداد فى العقل المسلمquot;.أما إذا تناولنا الضلع الرابع من هذه الرباعية وهو الليبرالية فلم تكن المجتمعات الإسلامية فى أى وقت ليبرالية بالمعنى الحقيقى لكلمة ليبرالية،ولم تكن هذه المجتمعات تتمتع بالتسامح فى أى وقت من الآوقات.
هذا يقودنا إلى التحدى الحقيقى للعلماء الكبار، مثل الدكتور مراد وهبة، فى معالجة الوضع فى الدول الإسلامية، فهل المجتمعات الإسلامية بثقافتها التاريحية المعروفة يمكن أن تقبل هذه الديموقراطية الكاملة من خلال رباعية الديموقراطية؟، وإذا كان هذا عصيا على هذه المجتمعات فما هى الطريقة العملية لنشر الديموقراطية فيها؟، بصراحة نحن نريد اجتهادا جديدا حول كيفية نشر الديموقراطية فى الدول الإسلامية بوضعها الدينى والثقافى الشائك والرافض لتقبل قيم الحداثة والتنوير الغربى والديموقراطية الليبرالية،فهل هذا ممكن أم أن الكلام عن حقوق الإنسان والحريات وسيادة الشعب فى هذه الدول هو حرث فى البحر؟.
والسؤال الاخر إذا كان إصلاح العقل عملية طويلة المدى فماذا نفعل فى الآجلين القصير والمتوسط؟.
على المستوى الشخصى أنا متشائم بشأن مستقبل المجتمع المصرى ومدى استعداده لقبول الحرية والديموقراطية والتنوير والعلمانية والتسامح والليبرالية ومن ثم الديموقراطية الحقيقية،واتمنى أن اجد عند الدكتور مراد وهبة ما يخفف من تشاؤمى هذا أو يطرح لنا حلولا عملية للتعامل مع هذه المعضلات.

كلمة مجدى خليل فى افتتاح مؤتمر quot; العلمانية نقيض الاصوليةquot; والذى ينظمه منتدى ابن رشد برئاسة الأستاذ الدكتور مراد وهبه بالتعاون مع منتدى الشرق الأوسط للحريات يوم الأثنين 1 مارس2010 بمقر منتدى الشرق الأوسط للحريات 45 شارع كيلوباترا بمصر الجديدة
[email protected]