رحل عن عالمنا يوم10 اكتوبر 2009 المفكر والمناضل والإنسان النبيل الدكتور محمد السيد سعيد(18 يونيه 1950-10 اكتوبر 2009).لا يستطيع المرء فى مقال صغير أن يوفى هذا الرجل حقه على المستوى الإنسانى وفى المجالات المتعددة التى ساهم وشارك وابدع فيها، فهو مفكر سياسى مرموق ومبدع ومنتج خلاق للأفكار، وأحد أهم فرسان حقوق الإنسان فى مصر والمنطقة فى العقود الثلاثة الأخيرة، ومناضل وطنى من طراز نادر وأصيل، وإنسان نبيل تشعر معه بالاخوة والألفة من اول لقاء ولا تخسر ابدا فى رهانك على إنسانيته.
ورغم إنه رحل وهو فى أوج عطائه الفكرى والوطنىquot;59 عاماquot;، إلا أن ما تركه من تراث فكرى يكفى لتصنيفه كمفكر وباحث سياسى من الطراز الاول، والأهم الذكرى العطرة التى ستصاحب الحديث عنه من كل من عرفوه أو اقتربوا منه quot; فذكرى الصديق تدوم إلى الابدquot;.
ولعله من المفيد ونحن نحتفى بذكراه العطرة ان نقدم عرضا لآخر بحث قدمه عن المواطنة فى مؤتمر المواطنة الذى نظمته جماعة quot; مصريون ضد التمييز الدينىquot; فى ابريل 2008 بعنوان quot; التمييز الرمزى: بين بناء الأمم وتحطيمهاquot;.
يرى محمد السيد السعيد أن المساواة تعد الشرط الأساسى لعملية الاندماج الوطنى، فبوجه عام تقوم البحوث حول بناء الأمم وتكاملها أو انقسامها وتصدعها على إدراك الدور الخطير لممارسة التمييز أو إلغاء وتجاوز كل صور اللامساواة. واكدت مدرسة التعددية الهيكلية فى علم الاجتماع أن مصير المجتمعات يتعلق، إلى حد بعيد للغاية، بأداء مؤسسات الدمج الاجتماعى على أساس المساواة.فأن عملت هذه المؤسسات بكفاءة يمكن للمجتمع أن يتطور لأمة ويسير على طريق صحى للتطور الاجتماعى والعكس، فان لم تعمل هذه المؤسسات أو كانت تعمل بطريقة معاكسة وتمييزية فمصيرها سيكون إلى الانقسام على أسس عرقية أو دينية وطائفية... وربما ينتهى الأمر أيضا لتصدعها وانقسامها السياسى.
هذه رؤية واضحة من عالم سياسة مرموق يشرح فيها بجلاء أن الخطر على مصر يأتى من هؤلاء الذين يميزون ضد مواطنيين مصريين آخرين، وأن النتائج الخطيرة المترتبة على ذلك يتحملها هؤلاء الذين يميزون ضد مواطنيهم، وأن الطائفية هى التمييز وليست الدفاع عن التمييز.
وطوال ورقته يشرح بعمق أن الأقباط ضحايا لهذا التمييز المخرب للأمة، وأن النظام السياسى والدولة بمؤسساتها تتحمل وحدها مسئولية هذه النتائج المترتبة على هذا التمييز، فالتمييز أساسا مصدره الدولة والنظام السياسى والاجهزة الأمنية. يقول محمد السيد سعيد:يعتقد الأقباط المصريون أن ثمة شيئا مهينا وشاذا تماما فى وجود إدارة أمنية بأسم quot; متابعة النشاط القبطىquot;، ويعتقد أيضا أن ثمة توجهات بوضع قيود على حركة أعيان المجتمع القبطى فى مراحل الأزمات السياسية.
ويرى محمد السيد سعيد أن التمييز والتهميش السياسى والتحقير من رموز الأقلية هو أخطر أنواع التمييز ، ويقصد بالتمييز السياسى فى مفهومه، هو الإعلاء من شأن رموز جماعات معينة وإنكار أو إخفاء أو تحقير أو تنزيل مكانة رموز جماعة أو جماعات أو هويات فرعية أخرى.ويظهر هذا التمييز فى أربعة مستويات كبرى فى بنية الدولة: الخطاب الأيديولوجى، والإعلام، وبنية الدولة والسلطة من الناحية الدلالية، ومن ثم خريطتها الولائية والأمنية والتجنيد للوظائف الكبرى فى هذه المؤسسات، واخيرا طبيعة الممارسة السياسية الفعلية.
ينطلق محمد السيد سعيد من عهد اسماعيل لتقييم مدى درجة الإندماج والتفكك الوطنى، فقد حققت مصر مستوى عاليا من الاندماج القومى بداية من عهد إسماعيل وصل لذروته فى ثورة 1919 حيث صار الولاء والإنتماء لمصر يتم عن طريق التأكيد على مصر كوطن وما يعزز هذا التأكيد من رموز، ولأول مرة يقول المصريون عن أنفسهم علنا أنهم شعب وأمة مستقلة، وأن الدين لله والوطن للجميع، فالوطنية المصرية هى الوعاء الوحيد الجامع، والمواطنة هى القاعدة الدستورية للدولة، والمساواة هى المعيار والمحك، والرمز هو الهلال مع الصليب.
ثم جاء الاغتراب مع جماعة الاخوان المسلمين الذين اقاموا ممارستهم السياسية على أسس دينية، وجاءت ثورة يوليو كما يرى وحققت المساواة بشكل عام فى التوظيف فى المستويات التحتية والوسيطة ولكنها ركزت عوامل الاغتراب عند الأقباط فى التوزيع غير المتساوى للرموز فى المجال العام، فالخطاب الإعلامى ركز على العصر الإسلامى وعلى المصادر الإسلامية للهوية المصرية والعربية، ولم يكن مسموح إذاعة الصلوات الدينية المسيحية بالمقارنة بالتوسع المذهل فى إذاعة كل التعبيرات الإسلامية، وبدا من منظومة التمثيليات الإذاعية والتليفزيونية أن مصر تتكون من مسلمين فقط، وتم حجب الأقباط عن الإعلام، وفى المرات القليلة التى وقعت فيها تغطيات للحياة القبطية الدينية والاجتماعية كانت الرسالة مملوءة بالشكوك والتشكيك فى وطنية الأقباط.
ويواصل محمد السيد سعيد ، أن الاغتراب الذى شعرت به الطبقة الوسطى العليا والبرجوازية القبطية الكبيرة فى ظل الناصرية لا يقارن بالانقلاب الذى حدث فى الموقف من الرموز القبطية فى ظل السادات ومبارك، ففى المجال السياسى عزز السادات انقلابه السياسى بخطاب ايدولوجى يركز على الإسلام ويهمش الوطنية المصرية، كما فشل مبارك فى إحياء الخطاب الوطنى وهو ما مكن التيار الدينى السياسى من احتكار الفضاء الرمزى كلية بما فى ذلك الإعلام الحكومى. وبدا تعريف الوطن ذاته وكأنه مفهوم دينى، وأن المحور الرئيسى للوجود الاجتماعى ومن ثم الحقوق والولاءات هو الدين، إلى الحد الذى تسمى فيه الأرض المصرية بأنها quot; أرض المسلمينquot;، كما كان يطلق عليها الشيخ الراحل محمد الغزالى، وهيمنت عملية أسلمة المجال الرمزى كله إلى الدرجة التى لا بد أن يشعر الأقباط بالهامشية. وصار التجنيد للوظائف الكبرى مؤسسا على خريطة دينية. وثم جعل الدين محور الممارسة السياسية خاصة فيما يتعلق بالانتخابات العامة. وبوجه عام فإن سيطرة الأمن والتفوق الكاسح لسلطة الأمن بالمقارنة بالسلطات والمؤسسات السياسية عزز هذا الميل للتمييز الرمزى ضد الأقباط.وصار الأقباط يمثلون بشكل رمزى فى السياسة والبرلمان بإرادة رئيس الجمهورية، وأن تولى الوزارة يرتبط بالطاعة والولاء للحاكم بدخول واكتساب عضوية الحزب الوطنى، واحتفظ الحكم بميراث التمييز فى بعض المجالات الهامة مثل قانون الشركات وقانون الجنسية وبالطبع فى كل ما يتعلق ببناء الكنائس وإصلاحها، وفى جميع حالات الإعتداءات والعدوان على الأقباط يتم التعامل بالذات بصورة سلبية مع الرمز الأول للمسيحيين المصريين وهو الصليب من قبل المتعصبين.
ويخلص محمد السيد سعيد من ورقته بوجوب التأكيد على أن العودة لإحياء الوطنية المصرية هو الطريق المأمون فعلا للاندماج الوطنى والنهضة لبلادنا، وهذا لن يتم بدوره بدون وقف التمييز ضد الأقباط تماما والذى تتورط فيه الدولة ومؤسساتها بشكل رئيسى.
رحم الله محمد السيد سعيد المفكر الوطنى المهموم بتقدم بلده، والحقوقى البارز الذى يرى الأمور بشكلها الواضع ويضع المسئولية على الجانى الحقيقى ولا يلوم الضحية، والمصرى الأصيل الذى شخص الداء الذى يعانى منه وطنه حيث الفساد والإستبداد وغياب الحريات وهى تشكل المناخ المثالى لتغول التمييز الدينى.
تكريما لهذا المفكر المرموق سوف ينظم حفل تأبين يوم الأثنين 9 نوفمبر من السابعة للعاشرة مساء، تحت رعاية مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وجماعة مصريون ضد التمييز الدينى ، ومنتدى الشرق الوسط للحريات، سيتحدث فيه نخبة مرموقة من المثقفين المصريين من اصدقاء الراحل الكريم وتلاميذه ومحبيه.
وسوف يعقد حفل التأبين بمقر منتدى الشرق الاوسط للحريات 45 شارع كيلوباتر بمصر الجديدة.
والدعوة عامة...فتعالى واحمل معك وردة لتضعها على صورة هذا الرجل النبيل.
وفى النهاية ستظل أعماله نبراسا يهتدى بها المخلصون والمهمومون بتقدم هذا البلد.
وداعا محمد السيد سعيد... وداعا أيها الروح الملهم...وداعا أيها العقل الخلاق...وداعا أيها الإنسان الرائع... وداعا يا حبيبنا الغالى.
[email protected]