حتى تكون الأمور محددة وواضحة ومنعا للالتباس نقول ونقر بوجود قضية مصرية وقضية قبطية، فهناك قضايا تخص كل المصريين معا وهناك قضايا تخص جزء من مكونات النسيج الوطنى كالأقباط والمرأة.على سبيل المثال القضية المصرية قبل ثورة 1952 كانت واضحة جدا وهى قضية الاستقلال عن المستعمر البريطانى ومن ثم بناء مصر الحديثة المستقلة، وفى فترة ما بعد ذلك كانت القضية المصرية الرئيسية هى تحرير الاراضى المصرية من الاحتلال الإسرائيلى.وخلال هذه المراحل ناضل الأقباط والمسلمون معا من آجل انجاز التحرر الوطنى، ووضع الأقباط قضية الاستقلال الوطنى على رأس اجندتهم، وكانت لها الاولوية عن قضيتهم الفرعية حتى تم الاستقلال وتحرير الارض.
والسؤال ما هى القضية المصرية حاليا؟
أعتقد أن القضية الحقيقية فى مصر حاليا هى قضية التقدم، والمشكلة بالطبع تكمن فى معوقات هذا التقدم،فما هى معوقات هذا التقدم ؟.
فى تصورى معوقات التقدم فى مصر حاليا ومن ثم فأن اركان القضية المصرية المعاصرة تتلخص فى الاستبداد ويقابله كمطلب الحريات العامة والخاصة وحرية التعبير بكافة أشكالها والحريات الدينية والديموقراطية وسيادة القانون والفصل الحقيقى بين السلطات واحترام حقوق الإنسان، والركن الثانى هو الفساد ويقابله كمطلب المساءلة والشفافية، والركن الثالث دور الدين والمبتغى دولة مدنية تفصل الدينى عن السياسى والعام عن الخاص والروحى عن الزمنى وتجعل النظام العام والمجال العام مدنيا خالصا بعيدا عن أى مرجعيات دينية ،والركن الرابع الانفجار السكانى والمرتجى ضبط معدلات نمو السكان لتتناسب مع حجم الموارد وحتى لا تلتهم أى ثمار للتنمية، والركن الخامس ضعف التنمية وتشوهها والمآمول نموذج التنمية العادلة مع ما يستلزم ذلك من تكافؤ الفرص وعدالة اجتماعية وبناء تعليم عصرى من آجل التنمية.
أركان القضية المصرية واضحة ومعروفة لكل المتابعين المدققيين للشأن المصرى. والقضية المصرية تخص كل المصريين أقباطا ومسلمين، ولكن هذا لا ينفى وجود قضية قبطية تخص الأقباط فقط فما هى أركان هذه القضية القبطية؟.
تتشكل القضية القبطية من ثلاثة اركان:
الركن الأول: الأقباط أقلية دينية
بدون مبالغة أستطيع ان أسرد أكثر من مائة تعريف لمفهوم الأقلية تنطبق جميعها على الأقباط، ولكن بالطبع المساحة هنا لا تستوعب ذلك وحتى لاندخل فى جدل واسع حول مفهوم الأقلية سنكتفى ببعض هذه التعريفات فقط وفقا للتمايز الظاهر ولوضعية الحقوق.
تعرف الموسوعة البريطانية الاقليات بأنهم quot;جماعة من الأفراد يتمايزون عرقيا أو دينيا أو لغويا أو قوميا عن بقية الأفراد في المجتمع الذي يعيشون فيهquot;.
وتعرف الموسوعة الأمريكية الأقلية فتقول quot; بأنهم جماعة لها وضع اجتماعي داخل المجتمع أقل من وضع الجماعة المسيطرة في نفس المجتمع، وتمتلك قدرا أقل من النفوذ والقوة ،وتمارس عددا أقل من الحقوق مقارنة بالجماعة المسيطرة في المجتمع. وغالبا ما يحرم أفراد الأقليات من الاستمتاع الكافي بحقوق مواطنى الدرجة الأوليquot;.
أما الخبير الايطالى فرنسيسكو كابوتورتى فقد عرف الأقلية فى دراسته المكلف بها من قبل الأمم المتحدة، والتى اعتمدت فى المنظمة الدولية بقوله quot; الأقلية هى مجموعة أقل عددا بالنسبة إلى باقى السكان فى دولة ما، وفى مركز غير مهيمن فى الدولة التى ينتمون إليها، وتمتلك هذه المجموعة خصائص ثقافية طبيعية أو تاريخية أو دين أو لغة تختلف عن باقى السكان ويعبرون عن شعور بالتضامن للمحافظة على ثقافتهم أو دينهم أو لغتهمquot;.
أما الخبير النرويجى اسبيرون أيدى فقد أعد دراسة للجنة حقوق الإنسان التابعة للامم المتحدة عام 1989 واعتمدت اللجنة تعريفه الذى جاء فيه quot; يقصد بالأقلية كل مجموعة من الأشخاص المقيمين فى دولة ذات سيادة،ويشكلون أقل من نصف السكان فى المجتمع الوطنى ويتمتع أفرادها بخصائص مشتركة عامة ذات طبيعة إثنية أو دينية أو لغوية تميزهم عن باقى السكانquot;.
أما سعد الدين ابراهيم فيعرف الأقلية فى موسوعته القيمة quot; الملل والنحل والاعراقquot; بأنها quot; أية مجموعة بشرية تختلف عن الاغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالةquot;.
وجب التنويه أن وضع الأقلية لا ينفى كون الأقباط جزء من النسيج أو مكون من مكونات السبيكة أو كونهم من أصحاب البلد أو كونهم مواطنون أصلاء ومن أحفاد الفراعنة أو كون جذورهم تمتد إلى اعماق التاريخ المصرى.
مصطلح الأقلية لا يهين أحد ولا ينتقص من شأن الأقباط بل هو مصطلح قانونى وفقا لتعريفات القانون الدولى تترتب بناء عليه التزامات على الحكومة المصرية.. ولهذا فهى تسعى دائما إلى انكاره حتى تتملص من هذه الالتزامات فى مخالفة صريحة للقانون الدولى.
والجدير بالذكر أن أغلب الدارسين النزيهين لموضوع الأقليات فى مصر يعرفون أن مفهوم الأقلية ينطبق بلا جدال على الأقباط.
الركن الثانى: الأقباط مضطهدون
ربما هناك الكثير من الجدل حول مفهومى الإضطهاد والتمييز حتى عند الأخيار من الناس.وقد قمت من ناحيتى بجمع أكثر من عشرين تعريف لمعنى الأضطهاد ووجدت أن جميعها تنطبق على الأقباط.
الإضطهاد فى القانون الدولى هو ببساطة تمييز مستمر وممنهج، وهو جريمة وفقا للقانون الدولى، ولهذا يقول القانونى المصرى البارز والقاضى السابق بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب فؤاد عبد المنعم رياض quot; جريمة التمييز إذا مورست بشكل منهجى ضد فئة محددة لأسباب دينية أو عرقية أو بسبب الجنس يمكن أن تقع تحت طائلة العقاب أمام المحاكم الدولية وتسمى جريمة الإضطهادquot;.وعرفت المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا الإضطهاد فى قضية كيوبسكك بأنه quot; إنكار جسيم وصارخ على أسس تمييزية لحق أساسى ثابت فى القانون الدولى العرفى أو الاتفاقىquot;.
أما نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية فعرف الإضطهاد على أنه quot; حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرمانا متعمدا وشديدا من حق أساسى أو من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولى، وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموعquot;، وأيضا عرفت المحكمة الإضطهاد بأنه quot; أن يستهدف مرتكب الجريمة ذلك الشخص أو أولئك الأشخاص بسبب انتمائهم لفئة أو جماعة محددة على اسس سياسية أو عرقية أو وطنية أو إثنية او ثقافية أو دينية أو تتعلق بنوع الجنس ..ويستهدف الفرد أو الجماعة بصفتها تلكquot;. وادرجت المحكمة الإضطهاد كجريمة ضد الإنسانية وفقا للمادة السابعة من نظام المحكمة.
أما ويكبيديا فتعرف الإضطهاد الدينى بأنه إساءة المعاملة بشكل منتظم لفرد أو لمجموعة بسبب معتقداتهم الدينية.
بل ان ميثاق الأمم المتحدة يعتبر الخوف المبرر الواقع على الأقليات إضطهادا حيث ينص quot; كل من وجد نتيجة خوف له ما يبرره من التعرض للإضطهاد بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة معينة أو بسبب آرائه السياسيةquot;.
وحتى لا نغرق فى سيل من التعريفات، ومن خلال قراءتى لعشرات المصادر التى تناولت المفهوم فأننى أرى إنه إذا كان هناك تمييزا منظما ضد فرد أو جماعة أو أقلية تقوم به حكومة ما، أو تتستر عليه ،أو تتواطئ مع منفذيه، أو تنكر وجوده، أو تخلق المناخ الذي يشجع عليه ، أو لا تتعهد بمقاومته والتخفيف منه ،فإن هذا يعني إضطهاد هذه الحكومة لذلك الشخص أو تلك الجماعة أو هذه الاقلية. فالاضطهاد في الأساس هو أنتهاك متعمد لحقوق المواطنة من قبل حكومة ما مع عدم التعهد بمعالجة هذا الانتهاك.
فالمفروض في التمييز إنه عارض وأن القانون يقاومه والحكومة تصدر التشريعات وتتصرف على أرض الواقع بطريقة تظهر بوضوح مقاومتها لهذا التمييز ،وبخلاف ذلك يكون التمييز إضطهادا.
الركن الثالث: حق الأقباط فى اللجوء للقانون الدولى والمواثيق الدولية
ربما يثير هذا الموضوع الكثير من الجدل والخلافات داخل مصر، وهذا الالتباس يعود إلى خلط الكثيرين فى مصر بين التدخل الأجنبى بمدلوله الكلاسيكى المذموم والمرتبط بالاستعمار والإستغلال وبين حق المصريين المقنن دستوريا فى الالتجاء إلى القانون الحقوقى الدولى، وكذا مشروعية التدخلات الحقوقية من المنظمات الحقوقية المهتمة بالشأن الإنسانى الحقوقى حول العالم.
الأقباط لا يطالبون مطلقا بالتدخل الأجنبى فى شئون مصر بمعناه القديم المرفوض فهذا يتنافى مع تاريخهم الوطنى المجيد الممتد، إنما يطالبون بتفعيل مواد الدستور المصرى، خاصة المادة رقم 151، التى تقنن حقهم المشروع فى الإلتجاء للقانون الحقوقى الدولى .
لقد استقر مفهوم التدخل الدولى المبنى على القانون الدولى والمواثيق الدولية فى الفكر السياسى والحقوقى حول العالم، فالمواثيق الدولية كتبت لكى تكون نصوصا فاعلة وليست حروفا ميتة، وهى مثلها مثل الدساتير المحلية يترتب عليها حقوقا والتزامات عالمية.
الجدال الحكومى حول هذه المواضيع هو تضييع للوقت وهروب من المسئوليات، وفوق ذلك هو مخالفة صريحة للقانون الدولى.
هذه هى اركان القضية القبطية، وهى قضية بكل معانى الكلمة وليست موضوعا أو مجرد مجموعة هموم أو مسألة قبطية أو شكاوى..كل هذه التوصيفات هى أعراض للقضية،فطبيعى أن ينتج عن القضية شكاوى وهموما يومية يعانى منها الشخص القبطى .
أركان القضية الثلاثة يمكن تلخيصها فى جملة واحدة هى : انتهاك جسيم لحقوق المواطنة.ولكن هذه الجملة ليست كافية ولا تمثل وصفا لأبعاد القضية ومن ثم وجب ابراز اركانها الثلاثة.
اسقاط ركن أو أكثر من هذه الأركان معناه أسقاط القضية ذاتها،فإذا جاء شخص ونفى كون الأقباط أقلية أو كونهم مضطهدين أو نفى حقهم فى الحماية القانونية المحلية والدولية التى يكفلها لهم الدستور المصرى ذاته، فمعنى ذلك إنه يسقط أو يضعف القضية القبطية برمتها، لأن ذلك يعنى أن ما يحدث للأقباط يحدث فى ال 193 دولة المسجلة كأعضاء فى الأمم المتحدة..فلماذا يشتكى الأقباط إذن إذا كانت مشكلتهم هى مشكلة بسيطة توجد مثلها فى كل دول العالم؟.وهذا ما تكرره الحكومة المصرية بأن ما يحدث للأقباط هى مسائل بسيطة تحدث فى كل العالم.
ولكن لأن هناك الكثيرين فى العالم يحترمون العلم ويحترمون القانون الدولى ويحترمون حقوق الإنسان ويحترمون الحقيقة قبل كل شئ، فلهذا يعلمون جيدا ويقولون علنا أن الأقباط أقلية مضطهدة،وأن لهم حقوقا دولية مقررة بناء على وضعهم هذا.... قضية الأقباط واضحة عالميا ولكنها ليست معترف بها عند أصحاب السلطة فى مصر، وهناك تشوش فى ذهن البعض من أصحاب الشأن ذاتهم.
وها نحن ننبه الأقباط أن لا يقعوا فريسة للضغوط أو المجاملات أو الإستسهال لنفى واضعاف قضيتهم كلها وذلك بإنكار أحد أركانها.
القضية القبطية قضية مكتملة وواضحة المعالم وتنتظر فقط من يتبناها من المسلمين والأقباط ،لأنه لا يمكن تحقيق أى انجاز فى القضية المصرية الكبرى المتعلقة بالتقدم وبناء مصر المستقبل بدون حل لهذه القضية القبطية.
[email protected]
التعليقات