أنضم عام 2008 إلى الأعوام الصعبة التى مرت على العالم، وتعد الأزمة الأقتصادية هى عنوانه الرئيسى، خاصة وأن هذه الأزمة هى الأصعب منذ عقود طويلة، وهى الأولى بهذا الشكل فى تاريخ الرأسمالية، فنحن امام أزمة نوعية ستؤثر فى تغيير شكل النظام الأقتصادى وفى آليات عمله. يقول الخبراء أن الأزمة بدأت فى أغسطس 2007، ولكن انفجار الأزمة بشكل كبير ومخيف جاء مع إعلان بنك ليمان براذر إفلاسه فى 14 سبتمبر 2008 بما يمثله من ثقل مالى كرابع اكبر بنك فى امريكا.
انتقلت بعد ذلك الأزمة من القطاع المالى إلى الأقتصاد الحقيقى، وهناك عشرات الشركات الكبرى بدأت فى إعلان افلاسها فى امريكا، واصبح من المألوف ان تسير فى الشوارع فى امريكا وتجد لافتات على الكثير من المتاجر الكبرى تعلن التصفية والخروج من البيزنس، وهناك من يقول ان آلاف الشركات الكبرى والصغرى سوف تعلن إفلاسها بعد إعلان الميزانيات فى يناير وفبراير، ويوجد الف بنك فى امريكا معرض للإفلاس كما يقول الخبراء، ومن المرجح أن يكون عام 2009 عاما قاسيا على البشرية اقتصاديا بعد أن رجحت التوقعات أن معدل نمو الأقتصاد العالمى سيصل إلى اقل معدلاته منذ عام 1950، وبعد انتقال الأزمة من الأقتصاد المالى إلى الأقتصاد العينى ومن شارع المال إلى شارع التجزئة.
عام 2008 أيضا انفجرت فيه أزمة الغذاء العالمى، وحسب تقديرات منظمة الفاو فان 40 مليون نسمة انضموا إلى جياع العالم فى العام المنصرم ليصل عدد الجوعى إلى 960 مليون نسمة. وفى مصر لاول مرة منذ عام 1977 يخرج الناس إلى الشوارع محتجين على الأوضاع المعيشية فى المحلة الكبرى وغيرها.
ولعل جزءا كبيرا من اكتساح باراك اوباما للانتخابات يعود إلى هذه الأزمة، فقد تراجعت العوامل الأخرى امام رغبة الناخبيين فى البحث عن حلول غير تقليدية لهذه الأزمة المستحدثة،فيما كان منافس اوباما جون ماكين يقدم حلولا مكررة وتقليدية للأزمة.
وبفوز اوباما سجل صفحة جديدة فى تاريخ الإنتخابات الأمريكية وفى تاريخ أمريكا لخصها هو فى خطاب له ببنسلفانيا بأنه ابن لاحد المهاجرين السود من افريقيا ومتزوج من أمراة هى من احفاد العبيد. فوز اوباما احد المعجزات الأمريكية التى لا يمكن تصديقها وحدوثها إلا فى امريكا، فاوباما ليس ضاربا فى التاريخ الأمريكى بل هو ابن طالب مسلم من كينيا جاء للدراسة وتزوج لفترة قصيرة من سيدة كاثوليكية امريكية بيضاء من الطبقة الدنيا التى ترضى بالزواج من السود قبل أن يتركها، كما يفعل الكثير من المسلمين، ليتزوج من مسلمة أخرى فى بلده وينجب منها البنيين والبنات تاركا ابنه الصغير مع زوجته الأمريكية التى تزوجت بدورها من مسلم اندونيسى وانجبت منه فتاة مسلمة، وهكذا صارت عائلة اوباما خلطة عجيبة تجمع الافريقى بالاسيوى بالامريكى،والمسلم واليهودى والمسيحى والملحد، الاسود والابيض والملون، البروتستانتى بالكاثوليكى.كما ان زوجته ميشيل من احفاد من كانوا يصنفون ويعيشون كعبيد، وليس هذا فقط ولكن اوباما انتخب كرئيس اسود لدولة اغلبيتها من البيض، وكشخص متعدد الهويات فى دولة سيطر عليها الانجلوسكسون منذ تأسيسها.
ولم يكن الأقتصاد وحده قاسيا على البشر عام 2008 ولكن الطبيعة أيضا كانت أشد قسوة، فقد جاء إعصار نرجس الاستوائى فى بورما يوم 2 مايو مخلفا 78 الف قتيل غير المشردين، أما الزلزال الذى ضرب جنوب غرب الصين فى 12 مايو فقد اوقع 70 الف قتيل وشرد حوالى 5 ملايين شخص. اما فى سبتمبر فقد ضرب اعصار جوستاف واعصار آيك منطقة البحر الكاريبى وجنوب الولايات المتحدة مخلفين دمارا واسعا. وفى 6 سبتمبر انهارت صخرة من جبل المقطم فقتلت 51 شخصا فى مصر فى حى منشية ناصر.
أما الإرهاب الإسلامى فقد كان له باع طويل فى العام المنصرم من العراق إلى الصومال إلى المغرب إلى افغانستان إلى باكستان إلى الجزائر إلى الهند، عشرات الحوادث الإرهابية المدمرة التى راح ضحيتها الألاف من الابرياء، ولكن باكستان تصدرت المشهد بجدارة، ففى هذا البلد المنكوب، والتى تركته الأزمة المالية على حافة الإفلاس، يتغلغل الإرهاب فى اركانه من الشارع إلى الجيش والمخابرات والتنظيمات المحظورة. فى العام المنصرم وقعت عشرات الحوادث الإرهابية فى باكستان أو انطلقت من باكستان، ولعل ابرزها إستهداف درة الأقتصاد الهندى مومباى فى 26 نوفمبر فى سلسلة من الهجمات الإرهابية التى اسفرت عن مقتل 195 وإصابة 327 وتدمير عدد من المنشات الحيوية هناك، وقد اظهرت التحقيقات الأولية تورط أجهزة باكستانية أمنية على الأقل بالتواطئ فى هذه العملية، وقد ادرجت الأمم المتحدة رئيس المخابرات الباكستانى السابق على قائمة الشخصيات الإرهابية الخطرة، وقبل ذلك تم تدمير فندق ماريوت بإسلام أباد وراح ضحية الهجوم 60 شخصا على الأقل، ومن قبلها إغتيال بنظير بوتو ومعها المئات من القتلى والجرحى، والكثير من العمليات الإرهابية فى افغانستان تنطلق من أراضى باكستان، ومعظم القيادات الكبيرة فى تنظيم القاعدة تعيش على أراضى هذه الدولة. باختصار تركت سنة 2008 باكستان ليس كدولة على حافة الإفلاس المالى فحسب ولكن كأخطر دولة فى العالم من ناحية إحتضان الإرهاب الإسلامى ومرشحة لتصير دولة فاشلة بامتياز وربما يتم تقسيمها كما يتوقع بعض المحللين.
لعل من الأخطاء الغربية فى العام المنصرم هو تشجيع أقليم كوسوفو على الإنفصال التام عن دولة صربيا وإعلان استقلاله فى 17 فبراير، وتشجيع جورجيا على محاولة ضم اوسيتيا الجنوبية بالقوة إلى جورجيا وهو الحدث الذى كاد أن يشعل حربا جديدة فى اوروبا لولا إدراك الغرب بأنه تعدى كل الحدود فى محاولاته لتطويق روسيا وإذلالها.
وكان عاما صعبا على الصحافة كذلك، فوفقا لتقرير مراسلون بلا حدود، فقد 90 صحفيا حياتهم فى عام 2008، وتم إعتقال 673 صحفيا وتعرض 929 صحفى لإعتداءات مختلفة.
وقبل أن ينتهى العام حمل لنا أحداث غزة المأسوية، وقد أظهرت بجلاء عمق الكراهية بين الأطراف المتحاربة، وأن التجارة بقضية فلسطين وصل إلى جثث الضحايا، وقد أصبح استعراضها جزءا من التهييج السياسى والمتاجرة الرخيصة فى محاولة لربط القضية ورهنها بملفات اقليمية معقدة ومتشابكة.
من الأخبار المفرحة القليلة فى العام الماضى هو نشاط العدالة الدولية فى مواجهة القادة المجرمين، ففى 7 يناير بدات محاكمة الرئيس الليبيرى السابق تشارلز تيلور فى مدينة لاهاى بتهم ارتكاب جرائم حرب، وفى 21 يونيه تم اعتقال مجرم الحرب رادفان كارديتش بعد 12 عاما من الفرار، وفى 14 يوليه طلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية من قضاة المحكمة إصدار قرار بتوقيف الرئيس السودانى عمر البشير بتهمة إرتكاب جرائم الإبادة الجماعية فى دارفور، ومن وقتها والدول العربية تسعى بكل جهدها لمساعدته على الإفلات من العقاب وتقويض العدالة الدولية.
فى الدول العربية بأت الإنقسام واضحا وبشدة فى عام 2008 بين محور الفوضى بقيادة إيرانية ومحورالإستقرار الركودى بقيادة مصر والسعودية. وجاءت أحداث غزة الأخيرة لتظهر بوضوح عمق هذا الإنقسام الذى تحول إلى حرب إعلامية ومخابراتية.
محور الفوضى يتحرك من إيران ليشمل دول مثل سوريا وقطر بجزيرتها وإلى حدا ما ليبيا واليمن ومنظمات راديكالية مثل حزب الله وحماس وجيش المهدى والاخوان المسلمين ومتطرفى اليمن ومهاوييس ليبيا وحناجر الجزيرة المهيجة.
وكاد هذا المحور أن يشعل حربا اهلية جديدة فى لبنان عندما اجتاح حزب الله بيروت فى 7 مايو، وبدأ هذا المحور العبث بشدة بالأمن القومى المصرى عبر ذراعه المتواجد فى غزة.
واثبت هذا الإنقسام كذبة وجود إعلام مستقل فى المنطقة العربية، ففى النهاية يتبع هذا الإعلام مموليه والتوجهات السياسية للدول التى تسيطر عليه، ولعل الردح الإعلامى بين الطرفين لم يبين فقط عدم إستقلالية هذا الإعلام وإنما عدم المهنية والأخلاقية أيضا.
المواجهة بين المحورين طويلة وممتدة، ورغم كل تحفظاتنا على محور الإستقرار الراكد إلا اننا نأمل ونطلب من الله الا ينتصر محور الفوضى، لأن ذلك يعنى خراب المنطقة بكاملها وسيطرة الفاشية الدينية على كامل المنطقة لتنطلق بعد ذلك لإشعال حربا عالمية جديدة يكون طرفها الإسلام الراديكالى.
على كل الاحوال نشكر الله على إعانته لنا فى هذه السنة الصعبة وستره علينا،لأنه من مراحم الله اننا لم نفن.
ونثق فى أن الله الذى أعاننا فى هذه السنة الصعبة سيمد يده علينا فى سنة 2009 الأصعب، فمع كل صباح تتجدد مراحم الله، وإن كنا غير أمناء فهو يبقى أمينا لانه لا يقدر ان ينكر نفسه.
وكل عام وجميعكم بخير
[email protected]