شاهدت مؤخرا على احد مواقع الانترنت فيلم حسن ومرقص الذى قام ببطولته الممثلان الكبيران عادل امام وعمر الشريف، وقد استمتعت بمشاهدة الفيلم كمشاهد وإن كنت لا املك القدرة على نقده فنيا لأن هذا يخرج عن نطاق تخصصى، ولكنى خرجت بانطباع عام بأن الفنان الكبير عادل امام عمل فى حدود ما هو ممكن ومتاح ومستطاع لكى يوصل رسالة محددة، وهى ان العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر تجاوزت مرحلة الازمة إلى مرحلة الاحتقان القابل للإنفجار، وان قدرنا أن نعيش معا ومن ثم وجب علينا البحث عن حلول عاجلة وحقيقية قبل ان يقع ما يخشاه العقلاء وينتظره الغوغاء ويعمل من آجله المتطرفون.إذن الفيلم واضح لم يقدم اسبابا لهذه الازمة ولم يطرح حلولا،لأنه لايقدر على طرح ذلك، وأنما فقط ضغط على جرس الانذار معلنا خطورة الموقف.

والفنان عادل امام يحظى باحترام الكثيرين، وهو يستحق ذلك بجدارة، لثقافته ووعيه ووطنيته وذكاءه ونجوميته الفنية المتوهجة وشجاعته، وحسب تقديرى له مكانة خاصة عند الأقباط لكل هذه الصفات السابقة علاوة على اخلاصه وعمله من آجل الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعى والدولة المدنية فى مصر.
قام عادل امام بادوار هامة لمقاومة التطرف والإرهاب الدينى وكانت لهذه الاعمال الفنية التى قدمها دور مهم فى تنفير المصريين من التيارات الإرهابية ومن ثم فى المساعدة الفعالة على تقليص هذه الموجة التى بلغت ذروتها فى تسعينات القرن الماضى، وقدم شخصية المرحوم الشهيد فرج فودة فى فيلمه الإرهابى حيث قام بتجسيده الفنان محمد الدفراوى، وكشف مافيا المتاجرة بالدين بتقديم نموذج محامى المتطرفين النصاب إياه فى فيلمه طيور الظلام الذى قام به بمهارة الفنان رياض الخولى، وذهب إلى اسيوط فى اوج أزمة الإرهاب وقدم مسرحيته هناك، وشارك وساهم فى الكثير من الاعمال الثقافية والفكرية والشعبية التى تقاوم التطرف والإرهاب، علاوة على إنه امتع الجماهير بفنه الجميل لسنوات طويلة.
الفنان عادل امام شخصية عظيمة وقيمة مصرية كبيرة تستحق كل التقدير والاحترام.
والسؤال لماذا لم يقدم عادل امام تحليلا عميقا او علاجا لمشكلة العلاقة بين المسلمين والأقباط فى فليمه الاخير؟
الاجابة فى تصورى إنه لا يستطيع تجاوز رؤية الدولة فى هذا الملف،وهذا لا يقتصر عليه فقط انما اغلب مؤسسات الدولة بما فى ذلك المراكز البحثية الكبرى التابعة للدولة لا تستطيع تجاوز رؤية أجهزة الدولة الأمنية فى هذا الملف، ولهذا قدم عادل امام فى المعالجة الدرامية رؤية رسمية للمشكلة؟.
وقضية الأقباط تختلف عن قضية الإرهاب، فهو فى معالجته لقضية الإرهاب تماهى مع الرؤية الرسمية ومع رؤية قطاع كبير من المثقفين ومن التيار العام.أما فى القضايا الشائكة فانه لا يستطيع تجاوز القيود المفروضة رسميا وشعبيا.فمثلا فى قضية العلاقة مع إسرائيل والتى عالجها فى فيلمه quot; السفارة فى العمارةquot; حاول من خلاله إرضاء جميع الاطراف وعالج المأزق السياسى بجرعة مكثفة من الكوميديا الجميلة.

(2)

فى حسن ومرقص قدم عادل امام الرؤية الرسمية، ولهذا حمل الفيلم معه بعض هذه المغالطات الرسمية ومن هذه المغالطات تصوير الأقباط والمسلمين على إنهم طرفان متناظران متكافان وليسوا اقلية وأغلبية، وأن ما يجرى بينهم هو فتنة طائفية كما تروج الدولة المصرية وإعلامها، ولا اجد رد على ذلك ابلغ مما كتبه د. جلال أمين عام 1997 فى مقالة بعنوانquot; الفتنة الطائفية والهروب من المسئوليةquot;حيث كتب،quot; تعبير الفتنة الطائفية لا يخبرك من الذى اعتدى على من، بل يجعل القضية مبنية للمحهول. والتعبير يوحى بان المسئولية متساوية بين مختلف الطوائف، وهى ليست كذلك. والمسلمون والأقباط ليسوا طوائف بل أغلبية وأقلية، والأغلبية مسئولة عن استتاب الأمن أكثر من الأقلية، لأن الأغلبية بيدها البوليس والحكومة والجرائد والإذاعة والتليفزيون والمدارس. بل المفروض أن تكون الأغلبية أقدر على ضبط النفس من الأقلية لأن لديها الشعور بالثقة بالنفس المتولد عن كونها أغلبية. والمفروض أن لديها من القوة والتسامح، وأن من لديه القدرة هو أقدر على العفو من الضعيف، والمفروض ألا تخشى الأغلبية الاعتراف بالخطأ والعودة إلى الحق، لأنها لا تصدر فى ذلك عن ضعف أو خوف...ولكننا بالطبع لا نريد أن نسمى الأشياء باسمائها، لأن تسمية الأشياء باسمائها الحقيقية سوف يفضح الجميعquot;.
اما المغالطة الأخرى التى جاءت بالفيلم، متماهية مع رؤية الدولة، فهو تصوير الوضع على أن الأزمة هى من فعل المتطرفين من الجانبين، وهى الرؤية التى أنتجها وعممها السادات واستمرت حتى الآن. فعلاوة على إنه لا يوجد طرف قبطى أستخدم العنف حتى هذه اللحظة ولا يوجد طرف قبطى دعا اليه من الأساس، فأن المتطرفين فى الجانب الآخر استخدموا العنف بكثافة ضد الجميع بما فيهم الدولة ذاتها فى محاولة لتقويضها والإنقضاض عليها. فماذا تعنى إذن كلمة متطرف قبطى سوى محاولة إيجاد هذا التوازن المقيت؟. ولهذا كانت سياسة السادات فى تطبيق هذا التوازن مضحكة، فيساوى بين عالم كبير مثل رشدى سعيد مع رئيس منظمة دينية سياسية تسعى للحكم بكل الطرق واستخدمت العنف فى سبيل ذلك مثل المرحوم عمر التلمسانى المرشد العام الأسبق لجماعة الاخوان المسلمين، ويتساوى رجال دين اقباط مسالمون بالشيخ عمر عبد الرحمن والشيخ حافظ سلامة وغيرهم، هذا التوازن السمج أضاع العدالة وبرء الجناة والمجرمين ودمر الثقة،ومن ثم أصبح الظلم عنوانا لملف العلاقة بين المسلمين والأقباط من الخانكة 1972 الى ابو فانا 2008... وهكذا كان تطبيق هذه السياسة ليس فقط مجحفا ولكنه مضحكا أيضا.
وحتى سياسة الأجهزة الأمنية التى اخطتها السادات، فهناك قسم للأخوان فى مباحث أمن الدولة يقابله قسم للأقباط، وهناك قسم للهاربين من الجماعات الدينية الإرهابية والمتهمين بجرائم فظيعة يقابله قسم لأقباط المهجر، وهم مجموعة من النشطاء الحقوقيين...وهكذا تسير الأمور بشكل معوج، ولهذا لا تتوقعوا علاجا حقيقيا لملف العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر فى ظل هذه السياسات العليا الظالمة والعجيبة والملتوية.
حسنا فعل الفيلم بتعرية تمثيليات ما يسمى بالوحدة الوطنية،فهى تمثيلية سقيمة مثل أشياء كثيرة فى مصر لا تخرج عن كونها تمثيليات سخيفة للفرجة.
وحسنا فعل الفيلم أيضا بتوضيح أن الملف كله تتبناه الأجهزة الأمنية، وهو ما حذر منه الكثيرون بخطورة وضع هذا الملف السياسى الحساس بين ايدى الأجهزة الأمنية. وحسنا فعل الفيلم أيضا بتوضيحه أن المشكلة من اولها إلى أخرها مسألة مصرية ومن صنع الداخل بعيدا عن اسرائيل وامريكا ونظريات المؤامرة التى تحاول تبرئة الدولة والداخل وتبييض وجه الأغلبية وإسقاط المسئولية الاخلاقية عنها.
(3)
جاء الفيلم ليوضح بجلاء إنكماش التعددية المصرية، فبعد ان كان المشهد به حسن ومرقص وكوهين، غاب كوهين عن الصورة بشكل تعسفى.ففى عام 1948 هاجم التنظيم السرى لجماعة الاخوان ممتلكات اليهود فى مصر فتم نسف محلات شيكوريل واوريكو بشارع فؤاد، وكذا محلات بنزيون بميدان مصطفى كامل ومحل جاتنيو، والقيت قنبلة شديدة الانفجار على محلات عدس بشارع عماد الدين، ونسفت شركة الإعلانات الشرقية.وتوالت الإتهامات على كوهين بسيطرته على الأقتصاد وبعمالته للدولة الوليدة وقتها إسرائيل.. ومع مجئ العسكر كانت السياسة واضحة بالتخلص نهائيا من كوهين والإستيلاء على املاكه.
ومع مجئ نظام السادات الدينى بدات الجماعات الإسلامية، الأبن الشرعى والتطور الطبيعى لجماعة الأخوان المسلمين، بمهاجمة مرقص بنفس الأسلوب القديم وبنفس الحجج السقيمة التى اتهم بها كوهين من قبل : السيطرة على الأقتصاد والعمالة للغرب الصليبى.
ولكن نسى هؤلاء طبيعة مرقص الذى تحمل إضطهادات رهيبة عبر التاريخ ولكنه لم ولن يغادر أرضه ولا وطنه الذى لا يعرف له بديلا منذ آلاف السنيين،حتى هؤلاء الذين هاجروا يعيش الوطن فى اعماقهم.تاريخ مرقص من تاريخ مصر وعمره من عمرها وصلابته تتماثل مع صلابة اهرامها، وقوة تحمله تلخص تاريخ هذا البلد العجوز المنكوب.
ولهذا جاءت رسالة الفيلم لتوضح أن قدرنا أن نعيش معا، وأن على العقلاء من المصريين أن يتجاوزوا عن سياسة الدولة الخرقاء الطائفية التى تقسم المصريين على أساس الدين وتختم العنف الطائفى بخاتم النسر الرسمى، وان يبحثوا عن تدعيم الوحدة الوطنية تحت المظلة الحقيقية،وهى مظلة المواطنة والتعايش المشترك... والآمل مازال معقودا على هؤلاء العقلاء الوطنيين الشرفاء وفى المقدمة منهم الفنان الكبير عادل امام.
[email protected]