الحلقه الاولى
الغذاء الرخيص مثل النفط الرخيص ربما يصبح شيئا من الماضى، هذه هى العبارة التى تتردد بكثرة على لسان الإقتصاديين العالميين الذين يتابعون أزمة الغذاء العالمى وأزمة النفط العالمى وكلاهما يؤشران كما تقول مسئولة الأمم المتحدة الى تسونامى غذائى يجتاح البشرية ويهدد الفقراء بالجوع ويجرف المزيد منهم الى هوة الفقر كل يوم.، وهو ما حذر منه البنك الدولى بأن مائة مليون شخص جديد مهدد بالانحدار دون خط الفقر والتعرض للجوع نتيجة لهذه الأزمة الحادة.
والأزمة حادة بكل المقاييس فالأسعار ارتفعت بشكل مذهل ويكفى أن نقول ان متوسط اسعار الغذاء قد ارتفع خلال الشهور الاربعة الماضية بمقدار 35% وهو رقم مزعج بكل المقاييس ان يحدث خلال 3 شهور. وحسب احصاءات البنك الدولى فقد ارتفعت اسعار القمح بمعدل 120% خلال السنة الماضية فقط وارتفعت أسعار القمح ايضا بمعدل 181% خلال السنوات الثلاثة السابقة حتى وصل سعره الآن إلى اعلى سعر له منذ 28 عاما( لاحظ السعر الحقيقى وليس السعر الاسمى، فطبيعى أن يكون سعر القمح واسعار كافة السلع اعلى من الماضى ولكن السعر الحقيقى معناه السعر فى علاقته بسلة الاسعار الاخرى).
وبالنسبة للأسعار الاخرى فقد ارتفع سعر الارز خلال العام الماضى فقط بمعدل 74% ووصل الى اعلى سعر له منذ 19 عاما،والصويا بمعدل 87% والحنطة بمعدل 130% والحليب ومشتقاته بمعدل 80% والذرة بمعدل 31%،وفى المتوسط ارتفعت اسعار الحبوب بمعدل 42% خلال العام الماضى، وخلال السنوات الثلاثة الماضية ارتفعت اسعار المواد الغذائية عموما فى المتوسط بمعدل 83% وكل هذه الاحصاءات وفقا لما اعلنه البنك الدولى ومن ثم هى حقيقة واقعة وتنعكس بالفعل على ازمة العالم التى وصفت بحق بانها quot;تسونامى غذائىquot;.
لقد وصل المخزون العالمى من الحبوب لما يكفى 8 اسابيع فقط، وقد صرح وزير الزراعة الامريكى أد شيفر ان مخزون القمح فى امريكا هو الان فى ادنى مستوى له منذ 60 عاما ، المزعج حقا ما قالته رئيسة الوكالة الامريكية للتنمية هنرييتا فور إنها لا تتوقع ان ترى انخفاضا فى اسعار الاغذية فى اى وقت قريب، اى اننا ازاء ازمة ليست طارئة وانما هيكلية حسب ما قيل انها اول ازمة حقيقية منذ انطلاق قطار العولمة فى تسعينيات القرن الماضى.
والحقيقة ان الجميع مدرك لفداحة الازمة وخرجت تحذيرات هامة من عدد من المؤسسات الدولية والمسئوليين الدوليين تحذر من عواقبها ، فوفقا لروبرت زوليك رئيس البنك الدولى فان هناك 33 دولة فى العالم معرضة لهزات اجتماعية وامنية نتيجة لنقص الغذاء وهى الدول التى تنفق على الغذاء من 50-75% من دخلها ومنها مصر، الجديد ان كل من يتحدث عن ازمة الغذاء فى العالم يقدم هاييتى ومصر كنماذج، ففى هايتى حاول الغاضبون اقتحام قصر الرئاسة وسقط خمسة قتلى من جراء ذلك واضطر البرلمان الى سحب الثقة من رئيس الوزراء ، وفى مصر اصبح منظر طوابير الخبز مشهدا مالوفا عند تغطية الازمة الغذائية فى مصر، وكما نشرت الصحف المصرية قتل عددا من المصريين وهم يتصارعون على الخبز الحاف فى طوابير لا تنتهى، ويكفى ما حدث فى 6 ابريل الذى كان من الممكن ان ينحرف الى اعمال فوضى وتخريب ونهب وسلب تجتاح مصر كلها، ولا ينسى منظر الغاضبون فى المحلة وهم يسقطون صورة ضخمة لرئيس الجمهورية فى مشهد موضوع على اليو تيوب يذكر الناس بما حدث فى ميدان الفردوس ببغداد.
الجديد والذى يهدد الاستقرار الاجتماعى هو هذا التحول فى الفقراء فى العالم من الارياف الى المدن كما تقول رئيسة هيئة المعونة الامريكة ونشأت مدننا جديدة بشكل عشوائى تمثل احزمة للفقر حول المدن الكبرى فى معظم دول العالم تقريبا... وهذه الاحزمة البائسة تمثل احزمة ناسفة للامن الاجتماعى فى حالة اندلاع ازمات حادة.
وقد حذر الامين العام للامم المتحدة بان كى مون من ازمة الغذاء وقال quot; الازمة الغذائية التى تتفاقم فى العالم قد بلغت مستوى خطيراquot;، محذرا من عواقب سياسية وامنية وخيمة،وحذرت منظمة الامم المتحدة للطفولة (يونسيف) من ان ارتفاع اسعار الغذاء يهدد باحجام كثير من الاسر الفقيرة من ارسال اطفالها للمدارس، وحذرت منظمة الامم المتحدة للغذاء والزراعة ( الفاو) من ان هناك خطرا متصاعدا ينذر بحدوث عدم استقرار اجتماعى فى البلدان التى تنفق فيها الاسر على الطعام اكثر من نصف دخلها.
ولكن السؤال ما هى الاسباب وراء تفاقم ازمة الغذاء فى العالم؟
تعددت الاراء حول اسباب ازمة الغذاء العالمى وهناك ما يشبه الاجماع على بروز اسباب رئيسية عصفت بالامن الغذائى العالمى
فهناك من يرى ان السبب الرئيسى هو ارتفاع اسعار البترول بشكل غير مسبوق كما يقول وزير الزراعة الامريكى quot; ارتفاع اسعار البترول هو اكبر عامل فى غلاء الاسعارquot;، فالبترول ليس سلعة عادية وانما وقود حيوى يدخل فى كافة الانشطة ومنها النشاط الزراعى فى الدول الكبرى التى تعتمد بشكل اساسى على الميكنة الزراعية،وارتفاع اسعار البترول هو الذى ادي الى تحول فى انتاج الطاقة من الايثانول اى استعمال الذرة فى انتاج الطاقة، ففى امريكا وحدها تم تحويل 10% من انتاج الذرة الى الوقودالعضوى. وهناك من يقول مثل المستشارة الالمانية انجلينا ماركل ان سبب ازمة الغذاء يعود الى ارتفاع مستوى المعيشة فى الصين والهند نتيجة للرواج الاقتصادى فى هذه البلاد وهى تزيد عن 2.2 مليار نسمة مما تسبب فى طلب متزايد على المنتجات الحيوانية والالبان من طرف هذه الدول، وكما قيل ان كل كيلو جرام لحوم حيوانية يحتاج الى70 كيلو جرام من الاعلاف والحبوب من اجل انتاجه. وهناك من يقول ان الطقس السئ وخاصة فى استراليا قد اثر على انتاج القمح فى العام الماضى.
وفى تقرير قيم اصدرته منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) وشارك فيه 400 من الخبراء الدوليين على مدى ثلاثة سنوات لخص التقرير اسباب الازمة ايضا quot; فى ازدياد الطلب على الاغذية فى الهند والصين والتوسع فى انتاج الوقود العضوى المستخدم عوضا عن البترول وارتفاع اسعار النفط تمثل بعض العوامل التى تقف وراء ارتفاع اسعار المواد الغذائيةquot;.
وبالتاكيد فان النمو السريع فى اقتصادات الهند والصين هو ناتج من التغيرات الدولية الناتجة عن عولمة الاقتصاد والتكنولوجيا،فقد استفادت هذه الدول من العولمة كثيرا وحققت فوائض مالية هائلة انعكست على مستوى التغذية فيها.
على ان هناك سبب اخر هام وهو المتعلق بتحولات فى البورصة نتيجة لازمة الرهن العقارى وازمات سوق المال العالمية مما زاد المضاربة على السلع الغذائية وعلى البترول والذهب وكان هذا سببا فى ارتفاع اسعار الذهب ايضا بشكل غير مسبوق.
الغريب اتهام البعض للعولمة بانها هى التى تسببت فى الازمة الغذائية فى العالم، والحقيقة غير ذلك، صحيح ان العولمة غيرت من هيكل الاقتصاد العالمى لصالح نمو متسارع للصين والهند وهم يمثلان اكبر كتل بشرية على كوكب الارض، ولكن هذا ليس عيبا فى العولمة بل على العكس لا تطبق الدول الكبرى العولمة كما يجب على قطاع الزراعة، فالسياسات الحمائية للمزارعين فى امريكا واوروبا وخاصة فرنسا هى ضد اتفاقيات التجارة الحرة التى هى من اساسيات العولمة، وعولمة قطاع الزراعة بشكل كامل سوف تساهم فى الاجل الطويل فى تخفيف ازمة الغذاء العالمى.
فى مسلسل مصرى اسمه quot; رجل من زمن العولمةquot; استعان مخرجه بجزء من برنامج لى فى قناة الجزيرة، اذيع عام 2001 ،ادافع فيه عن العولمة ليسخر من العولمة ومن المدافعين عنها... ورغم اننى اتوجع مثل الملايين حول العالم التى تعانى من جراء الازمة الاقتصادية الحالية الا اننى ارى ان الفساد السياسى والادارى وغياب الديموقراطية وعدم الانضباط المالى والخلل المصطنع فى سوق النفط والمضاربات على السلع والسياسات الاقتصادية الخاطئة هى المسئولة عن ازمة العالم الاقتصادية وليست العولمة.
وستظل العولمة اذا احسن استخدامها مخرجا لهذه الازمة وليست مسببا لها.
[email protected]