هناك إتهام شائع بأن الأقباط فى مصر اختاروا العزلة والإنزواء داخل الكنائس بديلا عن المشاركة السياسية والإنخراط فى العمل العام ، فهل هذا التوصيف دقيق؟
المسألة ليست بهذه البساطة، ونقطة البداية هي أن الأقباط تم إستبعادهم عمدا عن المشاركة فى إدارة شئون بلدهم. والخيارات المتاحة أمامهم ليست بين المشاركة أو الإنعزال، وإلا لكانوا اختاروا المشاركة بالتأكيد، وأنما هى بين النضال السياسى والحقوقى لنزع الحق فى المشاركة وبين الإنعزال المريح. وقد اختار الكثيرون الإنعزال ولجأوا إلى الملاذ الآمن داخل الكنائس، ودور الكنيسة تمثل فقط فى الحضّانة التى تستقبل ابناءها وتحاول أن تخفف عنهم مشاعر الظلم بسبب ما يمارس ضدم من قبل مؤسسات الدولة.
وبجانب الاستبعاد من المشاركة، هناك الكثير من المظالم التى مورست ضد الأقباط خلال العقود الثلاثة الأخيرة والتى أدت فى النهاية إلى إنهيار الثقة بين الأقباط ومؤسسات الدولة. والخطورة هي أن هذه الثقة لم تنهار بين الأقباط و laquo;النظام السياسىraquo; فحسب ولكن بينهم وبين laquo;مؤسسات الدولةraquo; ذاتها:
ـ المؤسسة الأمنية (الشرطة وأمن الدولة) منحازة بشكل سافر ضد الأقباط ليس فقط فى حالات تغيير الدين ولكن فى كل ما يقع على الأقباط من مظالم، وهناك تقارير عديدة من منظمات حقوق مصرية ودولية ترصد هذا الإنحياز الأمنى ضد الأقباط بل وفى كثير من الحوادث التواطئ ضدهم. أضف لهذا إصرار القيادة السياسية على ترك laquo;الملف القبطيraquo; في يد أجهزة الأمن بالكامل.
ـ المؤسسة القضائية التى تمثل الملاذ الآمن للمظلومين لم تكن هكذا بالنسبة للأقباط، فالعدالة غائبة بالنسبة للأقباط ليس فقط فى المسائل المتعلقة بالحريات الدينية والأحوال الشخصية، وإنما فى التعامل مع العنف الذى مورس ضدهم فى العقود الثلاثة الماضية. وهناك أكثر من 1500 حادثة إعتداء وقعت على الأقباط خلال تلك الفترة منها 240 حادثة إعتداء كبيرة، وقد قدرت ضحايا الأقباط بحوالى 4000 قتيل وجريح، علاوة على تدمير ونهب مئات الملايين من ممتلكاتهم الخاصة. فهل كانت العدالة على مستوى هذه الأحداث؟ الاجابة قطعا بالنفى، فلم تكن هناك العدالة التى تردع المعتدين وتريح المتألمين، ولا حتى تحقيقات شرطة كانت عادلة فى أغلبية هذه الأحداث.
ـ السلطة التشريعية منحازة أيضا ليس فقط فى تهميش الأقباط بها وتمثيلهم بشكل رمزى تافه، بل ومن خلال تعطيل كل التشريعات التى تحاول إنصافهم وآخرها القانون الموحد لدور العبادة.
ـ السلطة التنفيذية تتحمل الجزء الأكبر من المسئولية عن اضطهاد وتهميش الأقباط وعن المظالم التى تقع عليهم، وهى مسئولة قانونيا عن كل ما يقع ضدهم.
ـ حتى الأحزاب السياسية فالثقة فيها ضعيفة جدا، ويكفينا القول أن الحزب الحاكم لم يرشح قبطيا واحدا على قوائمه عام 1995، وفى الانتخابات التالية رشح أقل من نصف فى المائة من الأقباط من مجمل قوائمه، ويقوم بتعيين الأقباط laquo;المهادنيينraquo;، بل إن بعضهم معادى لمطالب الأقباط المشروعة. وإذا حاولت بعض الأحزاب وضع أقباط على قوامها، فإن الحزب الحاكم يلعب laquo;بورقة الدينraquo; ليفوز بأي ثمن وبأي طريقة.
ـ الجهاز التعليمى أصبح يمثل نظاما تمييزيا يحرم الأقباط من الكثير من المراكز التى يستحقونها ويتجاهل تاريخهم وتراثهم، بل وممتلئ بكل ما يهين معتقداتهم وكتبهم المقدسة ويكرس الإستعلاء الدينى عليهم. ويمكن الرجوع إلى الدراسات التى قام بها دكتور كمال مغيث عن التمييز الدينى فى التعليم المصرى وأيضا الدراسة المميزة للأستاذ عادل جندى بعنوان quot; طلبنة التعليم المصرىquot; لإدراك كم أصبح هذا التعليم تمييزيا وعدوانيا ومتخلفا، وفى بعض أجزئه عنصريا.
ـ المنظومة الإعلامية مليئة بالكثير من التطاول على معتقدات الأقباط وتسفيه كتبهم المقدسة وإيمانهم. وتتيح وسائل الإعلام القومية مساحات واسعة وثابتة لكتاب كل همهم الإزدراء بالديانة المسيحية ونشر الكراهية والتحريض على الأقباط بدون أن تسمح حتى بحق الرد. وكل هذا أدى لتعبئة مشاعر الكراهية الشعبية التي نراها كلما انفجرت laquo;الأحداث الطائفيةraquo; التي ليست سوى اعتداءات ضد الأبرياء.
ـ المؤسسات السيادية laquo;الخاصةraquo; (الأمنية والمخابراتية ورئاسة الجمهورية ومؤسسات صنع القرار) يبدو أنها لا تعترف بشريك الوطن من الأساس، بدليل عدم وجود قبطى واحد فيها.
المسألة إذن ليست إنعزال الأقباط بل عزلهم وتهميشهم.
وإنهيار الثقة لم يأت من فراغ بل هو نتيجة حتمية لممارسات وسياسات متواصلة ومستمرة لسنوات طويلة، وتتحمل الدولة وخاصة القيادة السياسية المسئولية الرئيسية عن إعادة بناء هذه الثقة المفقودة عن طريق تصحيح هذه الأوضاع المختلة الظالمة.
***
إن على الدولة، والقيادة السياسية، مسئولية البدء فى بناء الثقة التى دمرتها مع الأقباط لسنوات طويلة، والمسألة تحتاج إلى خطوات جادة لبناء هذه الثقة خطوة خطوة ونقترح فى هذه الصدد البدء وبطريقة عاجلة بهذه الخطوات:
أولا: سرعة إصدار القانون الموحد لبناء دار العبادة. وهناك مشروع القانون الذي قدمه المستشار الجويلى عضو المجلس منذ سنوات، وهو موجود فى أدراج مجلس الشعب، كما أن المجلس القومى لحقوق الإنسان قدم مشروع قانون آخر فى السنة الماضية.
وهذا القانون سيحل مشاكل العنف المصاحب لبناء الكنائس، بشرط أن يصدر بشكل عادل وينص صراحة على الغاء الخط الهمايونى والشروط العشرة المقيدة لبناء الكنائس، ويمنع أى اشراف أمنى على إنشاء هذه الكنائس، ولا يضع الغاما تفرغ القانون من هدفه وتعقد الأمور أكثر، ونأمل أن يصدر هذا القانون بسرعة قبل زيارة الرئيس مبارك لواشنطن لمقابلة الرئيس باراك أوباما، وإذا خلصت النوايا فالمسألة لا تتعدى عدة ساعات أو بالأكثر عدة أيام لإصداره.
ثانيا: سرعة تعديل قانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين استنادا إلي المسودة التي اتفقت عليها الطوائف المسيحية وقدمت لوزارة العدل منذ أكثر من عشرين سنة. ومن أهم أسسه أن يكون العقد شريعة المتعاقدين (أي لا تطبق الشريعة الإسلامية فى حالة تغيير الدين أو المذهب)، وجعل حضانة الأطفال تطبق بشكل متساو بين الطرفين المسلم والمسيحى، وعدم إجبار الطفل علي اتباع laquo;أفضل الديانتينraquo; في حالة تغيير أحد الوالدين لديانته.
ثالثا:البحث عن طريقة تضمن التمثيل العادل للمسيحيين فى المجالس التشريعية والمناصب السياسية. وهناك العديد من الدراسات التي تمثل التجارب العالمية في دول استطاعات التغلب على هذه المسألة وإدماج أقلياتها بشكل فعال فى هيكل الدولة على كافة مستوياته. أما مسألة التعيينات السياسية فهى بيد الدولة، وعليها فتح كافة المؤسسات السيادية وتعيين نسبة معقولة من الأقباط بها، لأن هذا الإستبعاد هو إضطهاد مباشر تقوم به الدولة ضد الأقباط، ويعطي laquo;لضعاف النفوسraquo; النموذج السيء لما يمكنهم عمله على مستوى فردي.
رابعا:لا بد للدولة ان تتخذ خطوات عاجلة بمنع الهجوم تماما على المسيحية وعلى الأقباط وعقائدهم وتراثهم وثقافتهم فى وسائل الإعلام التى تقع تحت سيطرتها المباشرة، ومعاقبة من يفعل ذلك بطرده ومنعه من الظهور والكتابة فى هذه الصحف المملوكة للدولة، والتى تمول من جيوب دافعى الضرائب من المسلمين والأقباط، وهذه مسألة ليست صعبة ويمكن تنفيذها بمجرد صدور الأوامر اللازمة!!.
خامسا: يحتاج النظام التعليمى إلى تغيير جذرى لتقديم تعليم عصرى يرتقى بالمواطن ويضعه على الخريطة التعليمية لدول العالم، وفي انتظار عملية التحديث يجب أن يحذف فورا هذا العبث الفج المتعلق بتحويل دروس اللغة العربية إلى دروس إجبارية في الدين الإسلامي، وبالهجوم على الآخر وتسفيه معتقداته وتراثه وثقافته ونشر الكراهية والحقد ضده.
الخلاصة هي أن الأقباط لم يعزلوا أنفسهم، بل إن الدولة المصرية هى التى همشتهم وعزلتهم.
وعلى الدولة، إن كانت جادة، أن تسرع بعدد من إجراءات بناء الثقة بينها وبين الأقباط والعمل على إعطاهم حقوق المواطنة كاملة وبدون نقصان، علما بأن الأقباط لا يطلبون laquo;مميزاتraquo; خاصة، بل مجرد حقوق مواطنة وحقوق إنسان طبقا للمواثيق الدولية.
أما إذا تمادت الدولة فى ظلمها وغيها، فلن يجد الأقباط مفرا من النضال السلمي الحقوقي من أجل الوصول إلى حقوقهم الوطنية المشروعة.
***
ملحق:
مراجعة على سبيل المثال وليس الحصر ما حدث من إعتداءات على الأقباط وحقوقهم فى عام 2008 نجد:
● الهجوم على دير ابو فانا فى 31 مايو وإحتجاز الرهبان كرهائن وتعذيبهم ومحاولة اجبارهم على البصق على الصليب وترك دينهم، وقد برئت المحكمة كافة المعتدين.
● هجوم حوالى 4000 شخص على كنيسة السيدة العذراء والانبا ابرام بعين شمس فى 23 نوفمبر 2008 وحطموا اجزاء من مبانى الكنيسة واشعلوا النار فى 8 سيارات وبعض ممتلكات الأقباط واصيب 8 افراد من جراء هذا الهجوم وأجبروا الأقباط على عدم الصلاة فى الكنيسة وهى مغلقة حاليا.
● فى 20 يوليو هاجم الآلاف بيوت وممتلكات الأقباط فى قرية النزلة بمحافظة الفيوم بحجة هروب فتاة كانت مسيحية من زوجها المسلم، وقد دمروا ونهبوا وخربوا فى ممتلكات الأقباط على نطاق واسع وأشاعوا الرعب والهلع بين الأسر القبطية.
● فى 4 اكتوبر تعرضت أيضا قرية الطيبة بمركز سمالوط بالمنيا لهجوم واسع كما أذاعت رويتر وتم مقتل الشاب جمال ناشد 19 سنة، واصابة ثلاثة أخرين علاوة على التخريب والنهب لممتلكات الأقباط، وقد تكررت هذه الأحداث عدة مرات فى هذه القرية.
● وتعرضت قرية دفش بسمالوط أيضا لعدة مرات من الهجوم الغوغائى فى عام 2008 ونتج عن ذلك مقتل ميلاد فرج ابراهيم واصابة وتدمير ونهب ممتلكات للأقباط.
● وفى شهر نوفمبر قامت محافظة اسكندرية بهدم مبنى لإيواء الأطفال والمسنيين تابع لكنيسة ابو سيفين بكنج مريوط رغم حصول المبنى على كافة التصريحات القانونية اللازمة.
● لاول مرة منذ مائتى عام يقتيد كاهن بملابسه الكهنوتية للسجن مباشرة من قاعة المحكمة بعد صدور حكم مشدد عليه بالحبس 5 سنوات بتهمة المشاركة فى تزوييج فتاة ببطاقة مزورة، وهو القس متاؤس وهبة من كنيسة السيدة العذراء بكرداسة بالجيزة. والقصة ببساطة أن فتاة تنصرت، ولإستحالة تغيير بطاقتها بعد التنصير قامت بتزوير بطاقة لكى تستطيع ان تتزوج، وتحمل الكاهن مسئولية ذلك رغم انه دوره فقط كان التزوييج وليس التزوير. وقد صدر تقرير محترم لمنظمة هيوم رايتس ووتش فى ديسمبر 2007 بعنوان quot; هويات ممنوعةquot; طالب الدولة بعدم معاقبة هؤلاء الذين يزورون فى اوراقهم الرسمية لأن الدولة المصرية لم تترك لهم حلا آخرا ، ولأنهم فى حالة موت مدنى.
●فى 28 مايو حدثت مذبحة لتاجر مجوهرات قبطى بحى الزيتون راح ضحيته اربعة اشخاص، وبعد ساعة واحدة من وقوع الحادث اصدرت وزارة الداخلية بيانا يقول ان الحدث غير طائفى،ولأن هذا الرجل نسيب أخى فقد استدعوه للتحقيق وحتى الأن لم يقولوا لنا من هو القاتل إذا كان الحادث غير طائفى، وفى نفس العام أيضا قتل صاحب محل مصوغات فى بشتيل اسمه معوض فاضل ، وقبلها بشهور قتل صاحب محل مصوغات قبطى اخر فى الجيزة، وهوجمت فى نفس السنة عدة محلات مصوغات لأقباط فى مناطق متفرقة من مصر.
● فى 6 نوفمبر 2008 تم الإستلاء على قطعة مساحتها 1350 مترا بقرية ميت نما تابعة لمطرانية شبرا الخيمة، وتم الإستيلاء أيضا على كنيسة تابعة للأقباط فى رشيد بالقوة والبلطجة.
● فى نفس سنة 2008 رفض أحد القضاة بمحكمة شبرا الخيمة بتاريخ 12 اغسطس شهادة احد المسيحيين بحجة إنه لا تجوز شهادته، ورفضت نقابة الأطباء نقل الأعضاء بين المسلم والمسيحى لأن الاخوان المسيطرين على النقابة يعتبرون جسد المسيحى نجس.وفى 17 سبتمبر صدر حكم بحبس السيدة بهية السيسى بالسجن 3 سنوات لأن والدها ترك المسيحية لفترة قصيرة منذ 33 سنة وكان عليها ان تتبع والدها منذ هذه السنوات الطويلة، وفى نفس السنة أيدت المحكمة حضانة الأطفال ماريو واندروا لوالدهم المسلم رغم إعلان الأطفال على الملأ بأنهم مسيحيون، ومن قبلهم حكمت المحكمة بحضانة الأطفال اشرقت وماريا لوالدهم الذى أسلم، وامتنع الأمن عن تسليم الطفلة بارثينيا (3 سنوات) لحضانة والدتها ميرفت رزق الله فهمى من زوجها الذى أسلم بحجة أن الطفلة اصبحت مسلمة.
● وفى نفس السنة أيضا تحرشت الدولة بأراضى دير ابو مقار فى محاولة للإستيلاء عليها، وبدأ الطمع فى أراضى الاديرة التى اصلحها الرهبان منذ مئات السنيين عندما كانت الصحراء خالية وموحشة.
هذه فقط عينات لما حدث للأقباط فى عام 2008 وساهمت الدولة بجزء كبير منها اما مباشرة أو بعدم معاقبة المعتدين أو بالتواطئ أو بعدم وجود ردع أو بنقص الحماية لأقلية مستهدفة.
[email protected]