(2)
من القواعد المتعارف عليها لدارسى تاريخ النظام الرأسمالى أن السياسة تخدم الأقتصاد وتصب لصالح رفاهية المواطن، وهذا يترجم إلى تقييم الفعل السياسى بالمعايير الأقتصادية أى بمعايير التكلفة والعائد على المستوى القومى وعلى مستوى رفاهية الفرد. ورغم صعوبة هذا القياس بالمعايير الحسابية الصارمة إلا أن هناك تقدير تقريبى موضوعى للتكلفة والعائد يشترك فى ذلك علماء الأقتصاد والسياسة والاجتماع مع متخذى القرار.
والأقتصاد الرأسمالى قائم على مبدأ السعر، بمعنى أن لكل شئ ثمن، ولا يوجد أقتصاد بدون سعرحيث بغياب مفهوم الثمن يختفى علم الأقتصاد، ولهذا يقول الأقتصادى الشهير ملتون فريدمان مؤسس النظرية النقدية: لا توجد وجبة بدون مقابل، هذه هى خلاصة نظريتى الأقتصادية والباقى مجرد تفاصيل. وقد ترجم الأقتصاديون هذه المقولة بتعريف الأقتصادى الناجح هو ذلك الشخص الذى يعرف جيدا بأنه ليست هناك وجبة غذاء مجانية.
منذ سبتمبر 2001 أصبحت السياسة عبء ثقيل على الأقتصاد الأمريكى، وتبنت إدارة بوش مبدأ جديد وهو quot;أمن المواطنquot; فى تقييم الفعل السياسى بديلا عن quot; رفاهية المواطنquot;، وأخذت تشن الحروب دفاعا عن أمن المواطن الأمريكى وتنفق مئات المليارات على التسليح دفاعا عن هذا الأمن، وتتبنى ترسانة مهولة من الإجراءات الأمنية المكلفة لمئات المليارات دفاعا عن هذا المبدأ. وتحت ضغط وإلحاح فكرة أمن المواطن والوطن انتفت الحسابات العقلية الأقتصادية الرشيدة للفعل السياسى. صحيح أن أمن المواطن عمل مهم ولكن لا يعنى غياب الحسابات الأقتصادية الأخرى المكملة للحسابات الأمنية.
وإذا أضفنا إلى ذلك التكلفة المتزايدة لدور شرطى العالم بدون عائد أقتصادى يساوى أو يغطى تكاليف هذا الدور... نكون إزاء وضع جديد أضحت السياسة فيه خصما من رصيد المواطن فى الرفاهة.
منذ عام 1991 وحتى عام 2001 كانت أمريكا أيضا تتصدر قيادة العالم وتتصدر دور شرطى العالم ولكن كان العائد يفوق التكلفة نتيجة حصد أمريكا الدفعة الأولى الكبيرة من عائدات العولمة بما فى ذل التدفق الرهيب لروؤس الأموال داخل الأقتصاد الأمريكى.، وهذ يعنى ان قيادة العالم فقط ليست هى المشكلة الوحيدة ولكن جدوى هذه القيادة أقتصاديا وحساباتها الرشيدة هى المحك الحقيقى، وأيضا تصدر مبدأ الأمن على الرفاهية منذ سبتمبر 2001 هو سلوك غير رشيد، فالهدف من أى نشاط فى النظام الرأسمالى يفترض انه رفاهية المواطن.
المشكلة ليست فقط فى عدم الموازنة بين مفهوم الأمن ومفهوم الرفاهة ولكن أيضا فى توسيع تعريف الأمن ذاته فلم يعد يقتصر على تأمين المطارات والمبانى والشركات وإنشاء مئات الوكالات والاجهزة الخاصة والحكومية التى تعمل فى هذا المجال، وأنما تعدى ذلك إلى محاربة الإرهاب دوليا،وتامين تدفق النفط للأقتصاد الراسمالى، وحماية الأسواق والنقل الدولى، ونشر الديموقراطية بالتدخل المباشر فى بعض الدول،وإسقاط بعض الأنظمة المارقة،ومنع الإنتشار النووى... كل هذا جميل وجائز ومشروع على المستوى الإنسانى ومن آجل سلام العالم، ولكن السؤال هل تتحمل دولة واحدة العبء الأكبر عن كل ذلك؟، فإذا كان مقبولا أن يتحمل المواطن الأمريكى التكلفة الباهظة والمبالغ فيها لتأمين الداخل فما هو المنطق وراء تحمله تكلفة تأمين سلامة كوكب الأرض وإصلاح الكون على هذا النحو؟ وماذا عن مجموعة الثمانية التى تتصدر قمة الأقتصاد العالمى؟ وماذا عن الاتحاد الأوروبى الذى يتصدر الناتج الاقتصادى العالمى؟ وماذا عن الصين والهند واليابان والبرازيل التى تستفيد من كل ذلك بدون تكلفة تذكر؟ وماذا عن المنظمات الدولية ومنظومة الأمن الجماعى الدولى؟.
علاوة على كل ذلك فأن تصدر مبدأ الأمن للعمل السياسى اضر إضرارا بالغا بنظرية المجتمع المفتوح والابواب المفتوحة والتى أثرت التجربة الأمريكية والأقتصاد الامريكى ماليا وبشريا.
*****
عاد البعض إلى الدراسة القيمة لبول كيندى عن quot; نشوء وسقوط القوى العظمىquot; لتفسير اللحظة الأمريكية الراهنة والانهيار الأقتصادى الحالى. وكانت فرضية كيندى الأساسية مفادها أن قيام الإمبراطوريات وسقوطها بالمعنى المتعارف عليه حتمية تاريخية. وهذه النظرية صحيحة تاريخيا والفروض والتحليلات التى جاء بها كيندى صائبة، ولكن المشكلة أن نظرية واحدة لا تستطيع تفسير الوضع الراهن من الناحية السياسية، فأعترض فرانسيس فوكوياما على كيندى فى كتابه quot; نهاية التاريخquot; وأعترض جوزيف ناى أيضا بنظريته عن quot; القوة الناعمةquot; وأعترض هنتنجتون على كيندى بنظريته quot; صدام الحضاراتquot;. والحقيقة رغم أن هذه الكتب الاربعة والتى تعد نظريات إستراتيجية تحلل وتتنبأ بالوضع المستقبلى لأمريكا والعالم إلا إنها ليست متعارضة كما تناولت ذلك الكتابات الغربية والشرقية. نظرية كيندى جاءت عام 1987 وبعدها بسنتين سقط الأتحاد السوفيتى وبعدها باربعة سنوات بدأ زخم العولمة وتصدرت الولايات المتحدة المشهد ومن ثم لم تكن مناسبة لتفسير اللحظة التاريخية وقتها رغم وجاهة وصحة النظرية تاريخيا.
وجاءت نظرية فوكوياما عن quot; نهاية التاريخquot; صحيحة أيضا إذ إنه تناول مفهوم الأرتقاء،ووفقا لهذا المفهوم فانه لا يوجد خلاف على الديموقراطية الليبرالية ولا على اقتصاد السوق المطعم بنوع من العدالة الاجتماعية، فاقطاب العالم الكبرى بما فى ذلك المنافسة أو المعادية للولايات المتحدة تأخذ باقتصاد السوق ولم تشكك فيه رغم إستفحال أزمة سوق المال عالميا... الكل يبحث عن علاج للأسواق بعيدا عن الخروج عن النظام الرأسمالى او تدميره. الكل يدرك ان النظام الرأسمالى فى أزمة تحتاج للبحث عن حل مثل عدد من الأزمات التى عانى منها تاريخيا. ومن ناحية الديموقراطية كل دول العالم لا تستطيع هجاء الديموقراطية الليبرالية حتى عتاة السلطويين اللذين تحايلوا على تفسيرها. من ناحية مفهوم الإرتقاء السياسى تتصدر الديموقراطية الليبرالية بالفعل المشهد العالمى.
ومن ناحية مفهوم القوة الناعمة نظرية ناى أيضا صحيحة وتفسر التفوق النوعى للولايات المتحدة، ولكنها تتجاهل سرقة كثير من دول العالم لهذه القوة الناعمة الأمريكية وتقليدها فى أشياء كثيرة بدون عائد يذكر فيما يتعلق بالملكية الفكرية ولا حتى عائد معنوى، فتجد محلات تأخذ كل اسلوب المطاعم الأمريكية من حيث شكل المحل وتقليد الطهى وطريقة تقديمه ويديرها من يعادون الولايات المتحدة بل ويكتبون على بعضها مطاعم حلال رغم أن المطعم قلبا وقالبا يمثل الأسلوب الأمريكى، فتقرأ مثلا مؤمن فرايد تشكن بدل من كنتاكى فرايد اتشكن أو حلال بيرجر بدل من ماك بيرجر أو بيرجر كينج حتى الكوكاكولا هناك الكولا الإسلامية، وما يحدث فى الدول الإسلامية يحدث فى الكثير من الدول الأخرى التى سرقت حقوق الملكية الفكرية للشركات الأمريكية.
ومن ناحية اخرى فأن نظرية صامويل هنتنجتون عن صراع الحضارات صحيحة أيضا وتفسر هجوم البربرية على الحضارة، فالحضارات لم تسقط فقط نتيجة تمدد الامبراطوريات وتضخم التكاليف كما يقول كيندى ولكن أيضا نتيجة لهجوم البربرية على الحضارة، وما الحرب على الإرهاب حاليا إلا حلقة من حلقات هجوم البربرية على الحضارة الغربية المزدهرة، وقد سقطت حضارات وامبراطوريات عظيمة تاريخيا نتيجة لهذا الهجوم البربرى سواء جاء من الهكسوس أو العرب أو التتار أو البربر والتاريخ ملئ بأمثلة كثيرة على ذلك.
عموما هذه النظريات الأربعة تحتاج إلى تفصيل أكثر فى مقالة قادمة للالمام بصورة متكاملة عن المشهد الأمريكى والدولى الراهن وارهاصاته المستقبلية.
[email protected]