ما يحدث فى الأسواق المالية الدولية حاليا يتجاوز مفهوم الأزمة العابرة أو المشكلة الطارئة أو أزمة الرهن العقارى، وانما يفوق ذلك بكثير إلى أزمة حقيقية فى آليات عمل النظام الرأسمالى ذاته. صحيح أن أزمة الرهن العقارى كان لها فضل تفجير هذه الأزمة ولكن الموضوع تجاوز بكثير أزمة الرهن العقارى إلى مشكلة حقيقية فى عمل النظام ذاته فى ظل العولمة وفى ظل التطور الهائل فى عمل المشتقات المالية الجديدة والتى تقدر ب50 ترليون دولار(حوالى 4 مرات حجم الناتج المحلى الأمريكى) والتى يصعب حتى على المتخصصين انفسهم الإلمام بالتطورات المتلاحقة والجديد فى هذا المجال، والتلاعب فى عمل البورصات حتى انحرفت بشكل كبير عن الوظائف الرئيسية المتعلقة بكونها آلية لإمتصاص فائض الادخار وتحويله إلى الاستثمار أو لتسييل المدخرات عند الحاجة لذلك، وأيضا فى ظل التداخل غير المسبوق فى الأسواق الدولية والمؤسسات المالية عبر كوكب الارض.
فى هذه السلسلة من المقالات سوف نحاول القاء الضوء على هذه الأزمة الحادة وتداعياتها على مستقبل النظام الرأسمالى العالمى، وخاصة ونحن نعيش أزمة سوف تدرس للمتخصصين فى علم الأقتصاد لعقود قادمة وسوف يدفع ثمنها العالم كله لسنوات. وهذه الأزمة ليست هى الأولى التى تعصف بأسس النظرية الرأسمالية وطريقة عمل الاسواق وإنما سبقتها أزمات عديدة وفى كل أزمة استدعى الأمر تغييرا فى القواعد الحاكمة لعمل الأسواق والنظريات الأقتصادية المفسرة لهذه الأزمات بما يلزم ذلك من فترة رقابة لضبط عمل الاسواق أو انتشالها من مأزقها.
من مميزات النظام الرأسمالى انه نظام مرن يجدد ذاته ويصحح مساره كلما اقتضت الضرورة ذالك وعقب كل أزمة عاصفة تمر به كالتى نراها الآن.
وعقب كل أزمة فى النظام الرأسمالى يخرج علينا أصحاب نظرية تدخل الدولة والتخطيط المركزى ليلطموا الخدود ويذكروننا بأن الحل فى هذا التدخل، وهناك فرق هائل بين تدخل الدولة بالشكل الذى يفكر فيه هؤلاء للسيطرة على الأقتصاد وتوجيهه وبين تدخل الدولة المؤقت لضبط سير النظام وتصحيح المسار أو لتطبيق النظريات الإقتصادية الجديدة التى تطرح حلولا للأزمات.
تدخل الدولة فى النشاط الإقتصادى هو مبدأ فاشل، فالدولة جهاز بيروقراطى فاشل وفاسد وكل الخبرات التاريخية اثبتت ذلك، بل أن اغلب الفساد الموجود فى امريكا يأتى من القطاع الحكومى سواء على المستوى الفيدرالى أو مستوى الولايات والمحليات، أما تدخل الدولة لضبط الأسواق والتأثير عليها فى الأزمات فهو شئ آخر يتعلق اولا بخطط الإنقاذ وثانيا بتطبيق النظريات الإقتصادية الجديدة المفسرة للإزمات وثالثا للتأثير على الأسواق وليس قيادتها وللتوجيه وليس للملكية العامة المستديمة.
فى هذه السلسلة من المقالات سوف نحاول القاء الضوء على هذه الأزمة الحادة وتداعياتها على مستقبل النظام الرأسمالى العالمى، وخاصة ونحن نعيش أزمة سوف تدرس للمتخصصين فى علم الأقتصاد لعقود قادمة وسوف يدفع ثمنها العالم كله لسنوات. وهذه الأزمة ليست هى الأولى التى تعصف بأسس النظرية الرأسمالية وطريقة عمل الاسواق وإنما سبقتها أزمات عديدة وفى كل أزمة استدعى الأمر تغييرا فى القواعد الحاكمة لعمل الأسواق والنظريات الأقتصادية المفسرة لهذه الأزمات بما يلزم ذلك من فترة رقابة لضبط عمل الاسواق أو انتشالها من مأزقها.
من مميزات النظام الرأسمالى انه نظام مرن يجدد ذاته ويصحح مساره كلما اقتضت الضرورة ذالك وعقب كل أزمة عاصفة تمر به كالتى نراها الآن.
وعقب كل أزمة فى النظام الرأسمالى يخرج علينا أصحاب نظرية تدخل الدولة والتخطيط المركزى ليلطموا الخدود ويذكروننا بأن الحل فى هذا التدخل، وهناك فرق هائل بين تدخل الدولة بالشكل الذى يفكر فيه هؤلاء للسيطرة على الأقتصاد وتوجيهه وبين تدخل الدولة المؤقت لضبط سير النظام وتصحيح المسار أو لتطبيق النظريات الإقتصادية الجديدة التى تطرح حلولا للأزمات.
تدخل الدولة فى النشاط الإقتصادى هو مبدأ فاشل، فالدولة جهاز بيروقراطى فاشل وفاسد وكل الخبرات التاريخية اثبتت ذلك، بل أن اغلب الفساد الموجود فى امريكا يأتى من القطاع الحكومى سواء على المستوى الفيدرالى أو مستوى الولايات والمحليات، أما تدخل الدولة لضبط الأسواق والتأثير عليها فى الأزمات فهو شئ آخر يتعلق اولا بخطط الإنقاذ وثانيا بتطبيق النظريات الإقتصادية الجديدة المفسرة للإزمات وثالثا للتأثير على الأسواق وليس قيادتها وللتوجيه وليس للملكية العامة المستديمة.
(2)
منذ ظهور كتاب مؤسس علم الأقتصاد أدم سميث quot; ثروة الأممquot; عام 1776 والذى طرح من خلاله نظريته فى الحرية الأقتصادية المطلقة بمقولة quot; دعه يعمل...دعه يمرquot; وكذلك تفسيرة لوجود quot; يد خفية quot; تحاول التوفيق بين العرض والطلب وبين المصالح المتعارضة، وأعقبه نظرية الأقتصادى الفرنسى الشهر ساى والتى عرفت بقانون ساى للأسواق وملخصها quot;أن العرض يخلق الطلب المساوى لهquot;، كل هذا دخل فى ذمة التاريخ ولم يعد هناك وجود لما يسمى بالحرية الإقتصادية المطلقة. ولعل أزمة عام 1929 اطاحت بكل هذه الأوهام جانبا وظهرت بعد ذلك نظرية كينز عام 1936 لتفسير وطرح حلول لأزمة عام 1929، وقد اطاحت هذه النظرية تماما بمبدأ ترك الأسواق تضبط نفسها وبقانون ساى للأسواق، فالعرض لا يخلق الطلب، والانتاج لا يأتى لتلبية رغبات البشر وإنما إستجابة للقوة الشرائية، والبطالة ليست اختيارية أو احتكاكية كما كان يقول سميث وساى بل أن النسبة الاكبر من البطالة هى إجبارية (البطالة الاحتكاكية هى الفترة بين ترك العمل والبحث عن عمل جديد)، ولهذا فإن تدخل الدولة واجب فى ظل الأزمات التى يتعرض لها الإقتصاد وتتعرض لها الأسواق. وبعد نظرية كينز جاءت عشرات النظريات التى تحاول التوفيق بين عمل الأسواق بتلقاءية وبين ضبطها ومحاولة إيجاد حلول للخلل الناتج عن ذلك أو الخلل المتعمد الناتج عن إساءة إستخدام الحرية الإقتصادية.
وقبل نظرية كينز كانت سياسة الرئيس الأمريكى الأسبق روزفلت التى عرفت ب New Deal تسير فى الاتجاه الصحيح فى محاولة للخروج من أزمة 1929 والتى عرفت بالكساد العظيم. ولما كانت الأزمة الحالية هى الاسوأ منذ الكساد العظيم، ولما كانت هذه الأزمة تتشابه فى بعض أعراضها معها...تعالوا نلقى الضوء على أزمة 1929 المخيفة قبل أن نستعرض مظاهر الأزمة الحالية.
(3)
فى الأسبوع الأخير من شهر اكتوبر 1929 شهدت الأسواق المالية الأمريكية إنهيارا مدمرا حيث انصهرت أمام أعين ملاك الأسهم ثرواتهم مثلما انصهر حديد برجى مركز التجارة العالمى فى11 سبتمبر 2001، وحسب وصف الأقتصادى الأمريكى هيلبرونر ذابت الثروات أمام اعين السماسرة كما تذوب الحلوى الهشةSpun sugar
أو ما تسمى عندنا غزل البنات ونتج عن ذلك تلاشى ما مقداره 40 بليون دولار من هذه الثروات أو ما يعادل نصف الناتج المحلى الإجمالى الامريكى الذى كان يقدر سنة 1929 ب 87 بليون دولار.
وبعد هذا الإنهيار المفاجئ دخل الأقتصاد الأمريكى فى مرحلة ركود طويلة استمرت حتى عام 1940، وترتب على هذا الركود نتائج كارثية على الأقتصاد الأمريكى حيث تراجع الناتج المحلى الاجمالى من 87 بليون عام 1929 إلى 75 بليون عام 1930 إلى 59 بليون عام 1931 إلى 42 بليون 1932 إلى 39 بليون عام 1933، أى فقد الإقتصاد الأمريكى أكثر من نصف ناتجه الإجمالى فى اربعة سنوات.
وكان من نتيجة هذه الأزمة الحادة انهيار النظام المصرفى، وتهاوى نشاط البناء فى قطاع الإسكان بمقدار 95%، وفقدان تسعة بلايين من حساب الادخار، وأفلس خمسة وثمانون الفا من المشروعات،وبلغ الهبوط فى حجم المرتبات 40% والأجور 60%. وفى عام 1933 قدر حجم البطالة فى الولايات المتحدة بحوالى 25% أو ما يبلغ 14 مليون من العمال، وبلغ الإنهيار فى توسعات القطاع الخاص بين عامى 1929 و1932 حوالى 94%(من 15 بليون إلى 886 مليون على التوالى).
والشئ الذى يدعو للقلق أن تفسير الإقتصاديين لأزمة 1929 يشبه تفسير الأزمة الحالية،حيث رأى الأقتصاديون وقتها أن الإنهيار كان محتوما، فسنوات الرواج الضخم السابقة عليه كانت مليئة بنذر الخطر: كان هناك توسع ضخم فى الأقراض بدون ضمانات كافية، واقبال غير محسوب المخاطر للمضاربة فى البورصات سعيا وراء الربح السريع، وكما تقول التقارير الإقتصادية المفسرة للأزمة، كان سلوك المواطن الأمريكى العادى ازاء الانتعاش يبدو جنونيا وانتحاريا، فقد أغرق نفسه فى الرهن، وتوسع توسعا خطيرا فى الشراء بالتقسيط، وأقبل بشغف كبير على تأمين مستقبله من خلال شراء كميات هائلة من الأوراق المالية قدرت عند الحد الأدنى وقتها ب 300 مليون سهم.
ورغم تشابه أعراض الأزمة الحالية مع أزمة 1929 إلا أن خطة الإنقاذ التى عرضتها إدارة بوش تختلف عن ما فعله روزفلت عام 1929.
سياسات روزفلت اعتمدت على التدخل لتنشيط الطلب وتوسيع الانفاق فى القطاع الحقيقى للأقتصاد عبر بناء اكبر شبكة من الطرق والسدود والمطارات والموانئ ومشروعات الإسكان فى تاريخ أمريكا بل واكبر شبكات البنية الاساسية فى العالم، وهذه البنية الأساسية التى تفتخر بها امريكا حتى الآن كانت نتيجة لهذه السياسة الفعالة الإيجابية لبرنامج روزفلت، عكس ما هو حادث حاليا فى خطة الإنقاذ التى تتمحور حول شراء اصول مالية منهارة ومتهالكة لن تضيف شيئا للاقتصاد وإنما تحاول أن تمنع مزيدا من الإنهيار... ومن هنا يأتى الخلاف على الخطة وعلى نتاءجها أيضا، وهذا ما سوف نتناوله فى المقال القادم.
[email protected]
فى الأسبوع الأخير من شهر اكتوبر 1929 شهدت الأسواق المالية الأمريكية إنهيارا مدمرا حيث انصهرت أمام أعين ملاك الأسهم ثرواتهم مثلما انصهر حديد برجى مركز التجارة العالمى فى11 سبتمبر 2001، وحسب وصف الأقتصادى الأمريكى هيلبرونر ذابت الثروات أمام اعين السماسرة كما تذوب الحلوى الهشةSpun sugar
أو ما تسمى عندنا غزل البنات ونتج عن ذلك تلاشى ما مقداره 40 بليون دولار من هذه الثروات أو ما يعادل نصف الناتج المحلى الإجمالى الامريكى الذى كان يقدر سنة 1929 ب 87 بليون دولار.
وبعد هذا الإنهيار المفاجئ دخل الأقتصاد الأمريكى فى مرحلة ركود طويلة استمرت حتى عام 1940، وترتب على هذا الركود نتائج كارثية على الأقتصاد الأمريكى حيث تراجع الناتج المحلى الاجمالى من 87 بليون عام 1929 إلى 75 بليون عام 1930 إلى 59 بليون عام 1931 إلى 42 بليون 1932 إلى 39 بليون عام 1933، أى فقد الإقتصاد الأمريكى أكثر من نصف ناتجه الإجمالى فى اربعة سنوات.
وكان من نتيجة هذه الأزمة الحادة انهيار النظام المصرفى، وتهاوى نشاط البناء فى قطاع الإسكان بمقدار 95%، وفقدان تسعة بلايين من حساب الادخار، وأفلس خمسة وثمانون الفا من المشروعات،وبلغ الهبوط فى حجم المرتبات 40% والأجور 60%. وفى عام 1933 قدر حجم البطالة فى الولايات المتحدة بحوالى 25% أو ما يبلغ 14 مليون من العمال، وبلغ الإنهيار فى توسعات القطاع الخاص بين عامى 1929 و1932 حوالى 94%(من 15 بليون إلى 886 مليون على التوالى).
والشئ الذى يدعو للقلق أن تفسير الإقتصاديين لأزمة 1929 يشبه تفسير الأزمة الحالية،حيث رأى الأقتصاديون وقتها أن الإنهيار كان محتوما، فسنوات الرواج الضخم السابقة عليه كانت مليئة بنذر الخطر: كان هناك توسع ضخم فى الأقراض بدون ضمانات كافية، واقبال غير محسوب المخاطر للمضاربة فى البورصات سعيا وراء الربح السريع، وكما تقول التقارير الإقتصادية المفسرة للأزمة، كان سلوك المواطن الأمريكى العادى ازاء الانتعاش يبدو جنونيا وانتحاريا، فقد أغرق نفسه فى الرهن، وتوسع توسعا خطيرا فى الشراء بالتقسيط، وأقبل بشغف كبير على تأمين مستقبله من خلال شراء كميات هائلة من الأوراق المالية قدرت عند الحد الأدنى وقتها ب 300 مليون سهم.
ورغم تشابه أعراض الأزمة الحالية مع أزمة 1929 إلا أن خطة الإنقاذ التى عرضتها إدارة بوش تختلف عن ما فعله روزفلت عام 1929.
سياسات روزفلت اعتمدت على التدخل لتنشيط الطلب وتوسيع الانفاق فى القطاع الحقيقى للأقتصاد عبر بناء اكبر شبكة من الطرق والسدود والمطارات والموانئ ومشروعات الإسكان فى تاريخ أمريكا بل واكبر شبكات البنية الاساسية فى العالم، وهذه البنية الأساسية التى تفتخر بها امريكا حتى الآن كانت نتيجة لهذه السياسة الفعالة الإيجابية لبرنامج روزفلت، عكس ما هو حادث حاليا فى خطة الإنقاذ التى تتمحور حول شراء اصول مالية منهارة ومتهالكة لن تضيف شيئا للاقتصاد وإنما تحاول أن تمنع مزيدا من الإنهيار... ومن هنا يأتى الخلاف على الخطة وعلى نتاءجها أيضا، وهذا ما سوف نتناوله فى المقال القادم.
[email protected]
التعليقات