بعد كل ازمة تمر بها امريكا يثار تساؤلان، الاول عن متى ستنهار امريكا؟ والثانى عن الدور الامريكى ومستقبله؟ حدث ذلك اثناء ازمة فيتنام وبعد 11 سبتمبر، ويحدث الآن بعد التعثر الامريكى الحالى فى العراق. وكل من السؤالين مرتبط بمستقبل الدولة الامريكية.
وقد صدرت فى امريكا عشرات الدراسات والكتب والابحاث والرؤى الإستراتيجية التى حاولت الإجابة عن هذه الاسئلة، ومع جدية الكثير من هذه الدراسات إلا انها بالتأكيد تأثرت بظرفية خروجها ولهذا اصطبغ بعضها بتشاؤم أو تفاؤل مؤلفها وفقا للظرف الوقتى الذى تمر به امريكا والذى اثر عليه بالطبع. ونعود إلى السؤال الاول، هل امريكا فى خطر؟
بتتبع النظريات الجادة التى اجابت على هذا السؤال خلال ربع القرن الاخير نجد تباينا فى تعريف السقوط واسبابه وكذلك فى توصيف معنى القوة ذاته.

النظرية الأولى: لبول كيندى فى كتابه quot;صعود وسقوط القوى العظمىquot;
والذى صدر عام 1987 متأثرا بظروف حرب فيتنام حيث اعتبرها نقطة البداية لتراجع امريكا ومن ثم افول نجمها حيث الانخفاض فى نمو الصناعة والزراعة وفى نفس الوقت زيادة فى الاعباء العسكرية والامنية والتى حولت الولايات المتحدة من اكبر دولة دائنة الى اكبر دولة مدينة فى العالم. حذا كيندى حذو ماركس فى تبنى المادية التاريخية والحتمية التاريخية لسقوط الامبراطوريات معتبرا أن اعباء الامبراطوريات تتزايد مع مرور الوقت حتى يأتى وقت يختل التوازن بين اعباء الامن المتزايد وقدرتها على الحفاظ على قاعدة تقنية واقتصادية تلبى الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية لمواطنيها وتضمن فى نفس الوقت استمرار النمو، والنتيجة الحتمية عند كيندى هى حتمية سقوط القوى العظمى وافولها نتيجة لهذا السبب الاقتصادى،فالانهيار امر حتمى. ولاثبات نظريته قام كيندى بتتبع قيام الامبراطوريات وسقوطها منذ عام 1500 حتى الامبراطورية السوفيتية والامريكية.. واستخلص أن الامبراطورية الامريكية فى حالة آفول منذ ستينات القرن الماضى.
ورغم وجاهة ومنطقية نظرية كيندى إلا انها واجهت نفس موقف نظرية مالتس للسكان، حيث تنبأ مالتس بمجاعات فظيعة نتيجة تزايد السكان بمتوالية هندسية فى حين يتزايد الغذاء بمتوالية عددية مما يؤدى الى نقص حاد فى الغذاء يؤدى بدوره إلى تقليص عدد السكان ليتوائم مع المتوفر من الغذاء. واجهت نظرية مالتس الثورة الصناعية التى أدت إلى تسارع النمو الصناعى والزراعى ومن ثم تحقيق فائض غذائى رغم زيادة السكان، وواجهت نظرية كيندى بعد عامين على صدور كتابه سقوط حائط برلين ثم إنهيار الاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية وتتويج امريكا كقوة عظمى منفردة وما تلى ذلك من بزوغ العولمة والاستفادة الهائلة للاقتصاد الامريكى من مداخيل العولمة مما استدعى نظرية جديدة لتفسير ما حدث.

النظرية الثانية: وهى نظرية quot;نهاية التاريخ quot;لفرانسيس فوكوياما
التى ظهرت عام 1989 عقب سقوط الإتحاد السوفيتى مباشرة.نظرية فوكوياما ترفض فكرة الحتمية التاريخية التى جاء بها كيندى وترفض أيضا فكرة أن التاريخ يعيد نفسه ومن ثم التكرار الدائرى فى السياسة الدولية. ومثل كيندى ايضا تتبع فوكوياما التاريخ الاوروبى والأمريكى منذ عام 1806 عندما انتصرت مبادئ الثورة الفرنسية وهو التاريخ الذى انطلقت منه ارساء المبادئ الأساسية للديموقراطية الليبرالية.
وبسقوط الإتحاد السوفيتى عند فوكوياما اعتبر ذلك إيذانا بانتهاء الصراع الكبير فى السياسة الكونية وظهور عالم واحد منسجم نسبيا. يقول فوكوياما quot;ربما نشهد نهاية التاريخ بما هو:نقطة النهاية للتطور الأيدولوجى للبشرية وتعميم الليبرالية الغربية على مستوى العالم كشكل نهائى للحكومة الإنسانيةquot;.فعند فوكوياما هناك تفرد امريكى يعتمد على رسالتها فى نشر قيم الحرية والديموقراطية ومن ثم امريكا خارج التحليل الكلاسيكى الذى اتى به كيندى، فالصراع الايدولوجى حسم لصالح الإرتقاء الإنسانى والذى وصل إلى قمته فى الديموقراطية الليبرالية... عند فوكوياما اللعبة انتهت ولن تأتى البشرية بنظام ارقى من هذه الديموقراطية الليبرالية، ومن ثم يصبح التفرد الامريكى نابعا من الديموقراطية الليبرالية التى تتجاوز ظروف قيام القوى العظمى الامريكية وسقوطها.
ورغم أن فوكوياما تناول فى نظريته مفهوم ارتقاء الوعى والذى انتهى برأيه فى التطور الإنسانى إلى الديموقراطية الليبرالية إلا أن احداث 11 سبتمبر جاءت بعد ذلك لتضعف من موقفه ومن جاذبية نظريته، حيث أن هناك من لا يرفضون الديموقراطية الليبرالية فحسب بل وأيضا يسعون لتدمير الحضارة الغربية ذاتها، حيث رجعت هذه الاصولية الإسلامية متمثلة فى القاعدة إلى البدائية الإنسانية المتوحشة.
المآخذ الآخر على نظرية فوكوياما إنها جاءت لتفسير حدث سقوط المعسكر الشرقى ولكنها فشلت فى التنبؤ بالمستقبل ومن ثم ظهرت وكإنها مجرد تهليل لما حدث اكثر من كونها تقدم تحليلا شاملا للواقع الدولى أو تتنبأ بمستقبله.

النظرية الثالثة : نظرية quot; القوة الناعمة لجوزيف ناى
ركزت هذه النظرية على طبيعة القوة ذاتها، فقد رفض التفسير المادى الذى آتى به كيندى ورفض مفهوم الهيمنة واعتبر أن طبيعة القوة الأمريكية والتى أثرت واكتسحت العالم هى القوة الناعمة وليست الخشنة ومن ثم فإن امريكا ليست قوة مهيمنة ولكنها قوة مؤثرة. وقد عرف ناى القوة الناعمة بقوله quot;القوة هى القدرة على التأثير فى سلوك الآخرين للحصول على النتائج التى يتوخاها المرء. والقوة الناعمة هى القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، وهى تنشأ من جاذبية ثقافة بلد ما وقيمه السياسية وسياساته، فعندما تبدو سياستنا مشروعة فى عيون الآخرين تتسع قوتنا الناعمة... القوة الناعمة إذن هى القدرة على الجذب، والجذب كثيرا ما يؤدى إلى الإذعانquot;. ونقل ناى عن كولن باول قوله quot; لا أستطيع أن أفكر فى رصيد لبلدنا أثمن من صداقة قادة عالم المستقبل الذين تلقوا تعليمهم فى أمريكاquot;. وقد نشر ناى نظريته عام 1990 فى كتاب بعنوان quot;تغيير طبيعة القوة الامريكيةquot;، وفى كتابه quot; ملزمون بالقيادةquot; الذى نشر عام 1990 أيضا حيث كتب ناى quot; أمريكا هى أقوى أمة، ليس فى القوة العسكرية والاقتصادية فحسب، بل كذالك فى بعد ثالث هو القوة الناعمةquot;. وكان ناى فى هذين الكتابين متفائلا متاثرا بسقوط الاتحاد السوفيتى أيضا وباكتساح العولمة بقيادة أمريكا للعالم. ولكن فى كتابه الذى صدر عام 2004 بعنوان quot; القوة الناعمةquot; والذى افرد فيه الكثير لتعريف هذه القوة ومصادرها فى امريكا ولدى الآخرين، تراجع عن تفاؤله كثيرا متأثرا بحرب العراق حيث كتب quot; هبطت جاذبية الولايات المتحدة هبوطا حادا فى عام 2003 على الرغم من وفرة مواردها بشكل مثير للإعجابquot;، وحدد ناى اربعة فترات سابقة تراجعت فيها الجاذبية الامريكية فى اوروبا وهى: بعد ازمة قناة السويس عام 1956، واثناء حركة تحريم القنبلة النووية فى اواخر الخمسينات من القرن العشرين وفى أثناء الحرب الفيتنامية، وفى أثناء نشر الأسلحة النووية متوسطة المدى فى المانيا فى مطلع الثمانينات.ووصل تشاؤمه بأن اقترب من نظرية هننتنجتون عن صراع الحضارات حيث قال جوزيف ناى quot; لعل امريكا أقوى من أى دولة أخرى منذ الإمبراطورية الرومانية، ولكن أمريكا مثل روما ليست قوة لا تقهر، ولا هى عديمة التعرض للعطب والانكشاف. فروما لم تخضع لنشوء إمبراطورية أخرى، ولكنها تداعت أمام موجة من هجمات البرابرة. والإرهابيون المستخدمون للتقنيات الحديثة العليا هم البرابرة الجددquot;.

النظرية الرابعة: نظرية quot;صراع الحضاراتquot; لصامويل هننتجون
وقد نشرت هذه النظرية فى مقالة فى مجلةquot; السياسة الخارجيةquot; الأمريكية فى صيف 1993 ثم طورها مؤلفها فى كتاب كبير صدر بنفس الأسم عام 1996.
يرفض هننتجتون فكرة كيندى عن سقوط الأمم، ففى رأيه أن الحضارات لا الأمم هى التى تظهر وتسقط. ومثل سابقيه قام بتتبع مصادر الصراع منذ معاهدة وستفاليا عام 1648 حتى وقت كتابة اطروحته، بين الأمراء، ثم بين الأمم، فالايدولوجيات وانتهاء بالصراعات الحالية بين الحضارات حسب وصفه.
وقد قسم العالم الحالى إلى سبعة حضارات هى: الصينية-الهندية-اليابانية-الإسلامية-الغربية-الروسية-الأفريقية. ويرى الخطر على الحضارة الغربية والصدام قادم من الحضارتين الصينية والإسلامية.
ركز هننتجتون على الحضارة الإسلامية ووصف المسلمين بأنهم وحدهم فى العالم الذين يرفضون التحديث والتغريب معا ناقلا عن جون اسبوزيتو وصفه للصحوة الإسلامية على إنها حركة إحياء واسعة حيث قال اسبوزيتو quot; الأصولية الإسلامية التى ينظر إليها على أنها الإسلام السياسى ليست سوى إحدى مكونات عملية الإحياء الواسعة للأفكار والمعتقدات والدعوة وإعادة الإخلاص للإسلام الذى تمارسه جماهير المسلمين. الصحوة تيار عام وليست تطرفا، متغلغلة وليست منعزلة. الصحوة أثرت على المسلمين فى كل دولة، وعلى معظم جوانب المجتمع والسياسة فى معظم الدول الإسلاميةquot;.
ويرى هننتجتون أن الصحوة الإسلامية تتشابه مع الماركسية فى: نصوصها المكتوبة، رؤيتها للمجتمع المثالى،الالتزام بتغيير جوهرى، رفضها للدولة القومية، تنوعها المذهبى بين المعتدل والثورى. ويرى هننتجتون quot; إن صراع القرن العشرين بين الديموقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمرة والعميقة بين الإسلام والمسيحيةquot;.
باختصار يرى هننتجتون أن التحدى العنيف للحضارة الغربية قادم من الحضارة الإسلامية فى صدام قادم لا محالة، ويخلص بنتيجة بأنه فى النهاية محمد سينتصر، يقصد نبى الإسلام عن طريق التحول والتكاثر، أى تحول غير المسلمين إلى الإسلام وتكاثر المسلمين المطرد، ولكن هذا الأنتصار لن يعنى نهاية الحضارة الغربية وإنما ضعفها وتراجع سيادتها، فهو لا يتوقع انتهاء الصدامات المختلفة بأى شكل، فالقانون السائد ليس هو النصر أو الأفول وإنما توازن القوى بين الحضارات.
قوة نظرية هننتجتون إنها تنبأت باحداث 11 سبتمبر وقدمت رؤية استراتيجية عميقة مليئة بالتفاصيل الكثيرة عن التحديات المستقبلية التى تواجه أمريكا والحضارة الغربية، وهى النظرية الوحيدة من النظريات السابقة التى تنبأت وتحققت جزء من نبوءتها، ولكنها على مستوى آخر لم تقدم إجابة على السؤال ما العمل؟ وكيفية مواجهة هذا الصدام؟ وهل القوة العسكرية الخشنة وحدها كافية؟.
وبعد مرور ما يقرب من 7 سنوات على احداث 11 سبتمبر وتعثرالإستخدام الكثيف للقوة العسكرية الخشنة كان لا بد من البحث عن رؤية آخرى.

النظرية الخامسة: مشروع quot;القوة الذكيةquot;الذى دشنه مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية بواشنطن فى عام 2008
وهذا المشروع يدعو إلى استعادة أمريكا لمكانتها فى العالم عن طريق الدمج بين قوتها الخشنة والناعمة لصياغة طريق جديد للتعامل مع العالم وهو مفهوم quot; القوة الذكيةquot;. ويرأس المشروع كلا من ريشارد ارميتاج مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق وجوزيف ناى الأكاديمى البارز وصاحب نظرية quot; القوة الناعمةquot;. وقد صدر عن المشروع دراسة بعنوان quot; القوة الذكية: مزيد من الأمن لأمريكاquot;، وقد كتبا معا مقالة فى الواشنطن بوست شرحا فيها التحديات التى تواجه امريكا فى المستقبل ولخصاها فى الاتى:أعادة تقوية التحالفات والشراكات التى تجعل واشنطن قادرة على مواجهة الأخطار المتعددة، وتفعيل الدبلوماسية الشعبية،وتعزير التنمية على المستوى الدولى، ودعم اتفاقيات التجارة الحرة الأمريكية،والتفاعل مع قضايا التغيرات المناخية، وتأمين مصادر الطاقة بالإستثمار فى التقنية اكثر.

وأخيرا: التحديات التى تواجه امريكا
رغم التراجع فى كلا من القوة الناعمة والقوة الخشنة الأمريكية، فأن الأقتصاد الأمريكى مازال هو الاقوى عالميا ويمثل أكثر من ربع الناتج الإجمالى العالمى وفقا لأرقام عام 2007، وما زالت القوة العسكرية الأمريكية هى الأقوى بلا منازع عالميا، وما زالت جاذبية الثقافة الأمريكية والقيم الأمريكية عالية رغم تراجعها بعض الشئ، وما زال الكلام عن سقوط أمريكا وإ نهيارها هو مجرد أحلام تراود الكثيرين فى المنطقة العربية بدون تحليل علمى يساندها.
ومع هذا هناك الكثير من التحديات المستقبلية التى تواجه القوة الأمريكية وحسب رأيى يمكن إيجازها فى الآتى:
* التعامل الفعال مع الإرهاب الدولى.
* البحث عن بدائل للطاقة.
* الحفاظ على وضع الدولار كعملة تسعير ومبادلات للتجارة الدولية، وعملة إحتياط للبنوك المركزية، وإستعادة وضعه كمخزن للقيمة.
* تقليص إستخدام القوة الخشنة.
* إ ستعادة جاذبية المجتمع الأمريكى المفتوحمع مراعاة الحفاظ على الأمن فى نفس الوقت.
* ضبط الإنفاق والمديونية.
* منع إنتشار أسلحة الدمار الشامل.
* الحفاظ على النمو الأقتصادى.
* التعامل مع الصين والهند.
* حل قضية الصراع الإسرائيلى الفلسطينى.
* ضمان بقاء حلفاء أمريكا وخاصة الأوربيين عن طريق تعزيز التشاور بعيدا عن العزلة والإنفراد بالقرارات.
* تقوية وضع المنظمات الدولية.
* منع ظهور الدولة الفاشلة ومحاولة السيطرة على الميلشيات المسلحة التى اختطفت الدول وخاصة فى الشرق الاوسط.
* الخروج الأمن من العراق مع وضع ترتيبات تحول دون عودة الدكتاتورية اليه او الأقتتال الأهلى أوالإرتماء فى أحضان إيران أوتحوله إلى دولة دينية طائفية.
مدير منتدى الشرق الأوسط للحريات
[email protected]