يوم 12 فبراير انفجرت سيارة فى حى كفر سوسة بدمشق اودت بحياة عماد مغنية المتورط فى عشرات الحوادث الارهابية حول العالم، من لبنان الى السعودية ومن الكويت الى الجزائر ومن العراق الى تركيا ومن فرنسا الى الارجنتين، والذى تننظره العدالة منذ ثلاثة عقود فى اكثر من 40 دولة، والمصنف ضمن اخطر الشخصيات الارهابية فى الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبى ولدى الامم المتحدة.
وكما كان هذا الرجل لغزا وشبحا غامضا حتى فى شكله، الذى قيل انه اجرى به عدة عمليات تجميل غيرت معالمه تماما، فان موته ايضا هو مواصلة لهذا اللغز، فتعددت الاراء والتحليلات والتصريحات حول من الذى انهى حياته واراح العالم من جرائمه ومخططاته الشريرة، ووصلت التحليلات لدرجة طرح البعض لفرضية انه لم يمت وانما الموضوع كله مسرحية لها ما يبررها فى سوريا ولبنان وايران من اجل استخدامها فى اللحظة السياسية الراهنة، وبنفس هذه الطريقة ايضا قيل انه مات ميتة طبيعية وهذا الاستعراض يصب فى نفس الغرض السابق.
وبعيدا عن هذه الاراء التى تبدو شطحات ذهنية، فان المعروف عن الجرائم السياسية المتقنة هو صعوبة، ان لم يكن استحالة، الحصول على دلائل قاطعة للادانة وتبقى القرائن هى اقصى ما يستطيع ان يصل اليه المحققون، فاذا كانت الحادثة علاوة على ذلك تتعلق بارهابى خطير فان الامر يبدو اكثر تعقيدا.
فى الشرق الاوسط يتمسكون بنظرية سهلة ومبسطة لتفسير الجرائم السياسية وهى quot; ابحث عن المستفيد من الجريمةquot;، ورغم وجاهتها كتخمين اولى، الا انها قاصرة وبشدة فى الجرائم السياسية الكبرى، وخاصة فى حالة جريمة مركبة ومعقدة مثل مقتل عماد مغنية، فهناك بالفعل اكثر من 42 دولة تطلبه للعدالة ومستفيدة من رحيله، بل وفى حالة شخص مثل مغنية فان العالم كله استفاد من رحيله باستثناء حزام الارهاب المعروف فى الشرق الاوسط الذى كان يتنقل بين ارجاءه خلال العقود الثلاثة الماضية.
واذا استبعدنا بعض الاحتمالات الضعيفة فيما يتعلق باغتيال مغنية، فان هناك اربعة احتمالات منطقية تداولت فيما يتعلق بالجهة التى تقف وراء اغتياله:
الاحتمال الاول: اسرائيل هى التى اغتالته
المؤيدون لهذا الراى لديهم حججهم المنطقية بان لاسرائيل مصلحة مؤكدة من وراء هذا الاغتيال، فهو مسئول عن تفجير سفارتها فى الارجنتين عام 1992 الذى اودى بحياة29 شخصا، وكذلك تفجير المركز اليهودى فى بيونس ايراس فى الارجنتين ايضا عام 1994 حيث سقط 85 قتيلا واكثر من 300 جريح. وتتهمه اسرائيل بخطف الجنود الاسرائيليين فى عام 2006 مما تسبب فى اندلاع الحرب مع حزب الله، وبانه كان له دور واضح فى التكتيكات العسكرية فى تلك الحرب، كما انه عراب نقل الاسلحة والصواريخ من ايران الى حزب الله عبر سوريا، علاوة على كونه المنسق الرئيسى للتعاون العسكرى بين حزب الله وايران من ناحية ومنظمتى حماس والجهاد الاسلامى من ناحية اخرى.
ولكن فى المقابل فان اسرائيل انكرت تماما اى علاقة لها بالموضوع وصدر بيان عن مكتب رئيس الوزراء جاء فيه quot;ان اسرائيل ترفض اى محاولة من الجماعات الارهابية لالصاق اى مشاركة لها بالحادثquot;، وصرح وزيرالدفاع ايهود باراك بانه quot; ليس لاسرائيل اى مصلحة فى التصعيدquot;، علاوة على ذلك فان المتابعين لسلوك اسرائيل يعرفون انها اما ان تعلن بوضوح، بل وتفتخر، بعد كل محاولة اغتيال تقوم بها وعند الحد الادنى تصمت، فليس كل ما ينسبه العرب لاسرائيل تقوم به بالفعل... فهو تضخيم مبالغ فيه جدا لقوتها.
اما ايهود اولمرت فله مصلحة مؤكدة فى الاعلان والافتخار بالعملية لو كانت اجهزته قامت بها لكى تمحى جزءا من اثر تقرير فينوجراد الذى اتهم ادارته بالتقصير فى الحرب الاخيرة مع حزب الله. وحيث ان عماد مغنية مطلوب فى 42 دولة فان لاسرائيل مصلحة مؤكدة للافتخار امام كل هذه الدول لو كانت قامت فعلا بالعملية، ومن مصلحتها اظهار نفسها امام الغرب بانها الحارس القوى لمصالحه فى مواجهة التطرف الاسلامى. كما ان اسرائيل هللت من قبل باغتيالها لقيادات كبيرة لم تكن مطلوبة دوليا مثل ابو جهاد ويحى عياش وعباس موسوى وراغب حرب والشيخ ياسين وعبد العزيز الرنتيسى....
وقد قامت اسرائيل بثلاثة عمليات داخل سوريا فى السنتين الماضيتين فى عين الصاحب، وفوق قصر الرئيس السورى واخيرا قبل خمسة اشهر فى الغارة على منشأة نووية فى دير الزور.. ولم تنكر ايا منها.
ان اسرائيل تؤمن بمبدأ الانتقام للردع ولبث الرعب..فهل هناك افضل من اغتيال ارهابى خطير كمغنية للاعلان عن ذلك، ولهذا ليس لها مصلحة فى انكارها الا اذا كانت فعلا لم تقم بها ولا تريد ان تدفع ثمن تصعيد هى بمنأى عنه.
الاحتمال الثانى: امريكا هى التى اغتالته
المؤيدون لهذا الراى لديهم الكثير من الحجج، فاكثر بلد فى العالم اضير من ارهاب مغنية هى امريكا، حيث صنف كاكبر متهم على كوكب الارض قتل اكبر عدد من الامريكيين قبل 11 سبتمبر، فهو المسؤول عن تفجير السفارة الامريكية فى بيروت فى ابريل 1983 والذى راح ضحيته 63 شخصا منهم 17 امريكيا، وهو المسؤول عن الانفجار الذى وقع ضد مشأة البحرية الامريكية يوم 23 نوفمبر 1983 فى بيروت والذى اودى بحياة 241 امريكيا و58 فرنسيا، وهو المسؤول عن خطف الطائرة الامريكية تى دبايو ايه فى 14 يونيه 1985 وقتل الطيار، وهو المسؤول عن تفجيرات الخبر فى السعودية عام 1996 والذى راح ضحيته 19 امريكيا، وهو منسق استضافة 400 قيادى من القاعدة فى ايران بعد هروبهم من افغانستان، وهو المدرب والمخطط لعمليات جيش المهدى ضد الامريكيين فى العراق، وهو المسؤول عن مقتل العقيد الامريكى ويليام بوكلى والمواطن تيرى اندرسون. ولهذا صنفته الولايات المتحدة ضمن اخطر 22 شخصية فى العالم مطلوبة للعدالة الامريكية ورصدت 25 مليون دولار لمن يدلى بمعلومات عنه تسهل القبض عليه، وهى نفس المكافاة التى رصدتها لراس بن لادن.
ولكن فى المقابل اعلنت الولايات المتحدة عدم مسئوليتها عن هذا الاغتيال على لسان رئيس ارفع جهاز امنى مايك ماكونيل رئيس المخابرات الامريكية، ويبدوا ان الحكومة الامريكية فوجئت بمقتله فجاء التعليق مقتضبا بان العالم افضل برحيله اعقبه فى اليوم التالى نفيا قاطعا على لسان رئيس المخابرات.ولو كانت الولايات المتحدة قتلته لتحول الحدث الى بهجة قومية كما حدث من قبل عند القبض على صدام حسين ومقتل ابو مصعب الزرقاوى، ولخرج جورج بوش على شاشات التليفزيون ليزف للامريكيين نبأ القضاء على هذا الشبح المخيف ليعوض بعض من خيباته فى العراق وفشله فى العثور على بن لادن حيا او ميتا كما وعد الامريكيين عام 2001، فشعبية بوش فى الحضيض وخبر مثل هذا لو قامت به فعلا امريكا كان سيرفع شعبيته بعض الشئ ويبرد نار اسر الضحايا المنتظرين لتحقق العدالة.
الاحتمال الثالث: قتل فى انفجار عبوة بطريق الخطأ
وجهة النظر وراء هذا الاحتمال، ان مغنية حضر من ايران الى سوريا لتجهيز سيارات مفخخة ليقودها انتحاريون الى لبنان لتفجيرها فى الحشود التى كانت ستحتفل بذكرى مرور ثلاث سنوات على اغتيال الحريرى وقد انفجرت عبوة فيه وفى السيارة، وهذا حدث مرارا مع انتحاريين فلسطينيين. المؤيدون لهذا الاحتمال يقولون بانه كان فى اجتماع مع قيادات امنية سورية رفيعة قبل الحدث وفى حضور مسئوليين امنيين من حزب الله ومسئوليين ايرانيينـن، وان الهدف كان تلقين فريق 14 آذار فى لبنان درسا لا ينسى بتفجير عدة سيارات تقضى على حياة المئات من الاشخاص من الحشود المتناثرة للاحتفال بذكرى الحريرى.
ولكن فى المقابل هنالك من يقول ان هذه النظرية لا تتماشى مع خبرة عميقة يحملها شخص مخضرم مثل مغنية لتنفجر فيه سيارة بهذه البساطة مثل المبتدئين، كما ان التفجير فى لبنان لا يحتاج الى التفخيخ فى سوريا، فاتباع سوريا فى لبنان كثيرون ومتواجدون فى كل مكان وباستطاعتهم القيام بذلك بسهولة، وقد فعلوها من قبل بشكل متقن وبتعليمات من سوريا لاستهداف معارضى اهدافها الاقليمية.
الاحتمال الرابع: تم اغتياله فى تصفيات سورية
وهذا الاحتمال عززته تصريحات رئيس المخابرات الامريكية مايك ماكونيل بقوله لفوكس نيوز quot; ان الاغتيال قد يكون من تدبير حزبه او حتى من تدبير سورياquot;. وتورط طرف سورى فى هذا الاغتيال يدعمه بانه اغتيل على مقربة من مقر المخابرات السورية، والتى من المفروض انها تعرف كم هو مطلوب من عدد كبير من مخابرات العالم ولهذا يفترض انها تؤمنه بدقة بما فى ذلك الكشف على سيارته قبل ان يركبها، كما ان المخابرات السورية هى التى منحته رخصة سيارة وجواز سفر بناء على تعليمات رئيسها ، وهى تعلم وتراقب وتؤمن تحركاته بدقة حيث انه كان يسكن حسب ما جاء فى صحيفة السياسة الكويتية فى بناية يملكها نادر قلعى الشريك التجارى لرامى مخلوف ابن خال الرئيس بشار الاسد.
والمؤيدون لهذا الاحتمال ايضا يقولون بان هناك مصلحة سورية مؤكدة من اغتيال مغنية، حيث ان مغنية وغازى كنعان واصف شوكت يملكون السر وراء اغتيال الحريرى ، وحيث ان المحكمة الدولية على الابواب وقد تم التخلص من غازى كنعان فلم يبق سوى عماد مغنية حتى لا يقع اصف شوكت رجل سوريا القوى فى شباك المحكمة، علاوة على وجود سبب قوى يجمع كل من سوريا وايران وحزب الله وهو البحث عن مسببات تبرر التصعيد لبنانيا وعدم غلق الجبهة اللبنانية مع اسرائيل حتى يظل سيناريو المسارين مستمرا ولاستخدام الحزب كورقة للعب بها اقليميا مع اسرائيل وامريكا لصالح ايران، ولهذا سارعت كل من سوريا وايران وحزب الله باتهام اسرائيل حتى قبل زيارة موقع الحادث وهو توظيف سياسى لا علاقة له باى قواعد مهنية للتحقيق الجنائى. وتماهى حزب الله مع ايران فى العمل على ازالتها من الوجود وفتح حرب مفتوحة عالميا معها. والمؤيدون يقولون ان مغنية غير تماما من معالم وجهه عبر سلسلة من العمليات الجراحية التضليلية كما انه يتنقل بعدة اسماء وعدة جوازات سفر ومن الصعب التعرف عليه وعلى شكله من المخابرات التى ترصده ان لم يكن ذلك بضوء اخضر من حلفاءه اما بناء على صفقة محسوبة او تصفية داخلية، ولهذ يقول المؤيدون ان سوريا اخفت معالم الجريمة وتعاملت مع موقع الحدث باستهتار ولم تعلن عن مقتله الا بعد 24 ساعة من وقوعه، كما انه لا احد اصلا يصدق التحقيقات فى سوريا ولا يثق فيها.
ولكن فى المقابل هناك من يقول ان لسوريا خسارة مؤكدة من رحيل مغنية فهى تأوى مجموعات متنوعة من الثوريين على اراضيها وتتاجر بهم دوليا واقليميا وتستخدمهم بمهارة فى بث الاضطراب فى المنطقة، واغتيال مغنية هو رسالة سلبية لكل هؤلاء بان سوريا لم تعد ملاذا امنا وتفقد بذلك اهم اوراقها ، كما ان سوريا لم تفتح جبهة مع اسرائيل الا من خلال حزب الله فكيف تتورط فى اغتيال اهم كوادره العسكرية ان لم يكن لها مصلحة قوية فى ذلك او بالتنسيق مع حزب الله؟.
فى النهاية مهما كانت الاسباب او الجهات التى تقف وراء اغتيال مغنية فبالتأكيد فان العالم افضل برحيله ورحيل امثاله.
[email protected]
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات