فى الخامس من مارس عام 1946 القى رئيس الوزراء البريطانى الشهير ونستون تشرشل خطابا فى كلية ويستمنستر بولاية ميزورى الأمريكية حدد فيه بدقة طبيعة الحرب الباردة والنفوذ السوفيتى واصفا الخطر على اوروبا بمقولة خلدت بعد ذلك فى التاريخ بقوله quot; الستار الحديدىquot; قد انتشر عبر اوروبا. وكان ذلك توضيحا للخطر السوفيتى على اوروبا والعالم وتوصيفا دقيقا لطبيعة العدو الجديد ودعوة لتحديه والوقوف فى وجهه.
فى الثانى من نوفمبر 1989 اندفعت الجماهير الالمانية من الجانبين لتحطيم جدار برلين وكان هذا الحدث التاريخى معبرا عن سقوط هذا الستار الحديدى الذى تحدث عنه تشرشل، وانتصار دول المعسكر الغربى ونهاية الحرب الباردة، وكان الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان(1981-1989) قد تحدى السكرتير الاخير للحزب الشيوعى السوفيتى ميخائيل جورباتشوف عام 1987 قائلا quot; مستر جورباتشوف حطم هذا الجدارquot;.
فى عام 1992 أعلن الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش عن قيام نظام عالمى جديد على أنقاض نظام القطبية الثنائية والحرب الباردة، ومحور هذا النظام العالمى الجديد هو إنفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم تجاه العولمة، واصبحنا إزاء عالم معولم تقوده الولايات المتحدة.
فى أغسطس 2008 اجتاحت روسيا الأراضى الجورجية دفاعا عن الروس فى اقليم أوسيتيا الجنوبية، ودغدغ هذا الإجتياح الروسى، لاراضى دولة صغيرة وضعيفة عسكريا، احلام البعض بعودة الحرب الباردة وعودة روسيا كوريث للاتحاد السوفيتى السابق كقوة عظمى إلى الساحة العالمية. وهنا تثأر عدة اسئلة جادة: هل عادت فعلا الحرب الباردة مرة أخرى؟ وهل سقط بالتالى نظام القطب الواحد ليفسح المجال لنظام متعدد الاقطاب؟ وهل روسيا قوة عظمى تستطيع منافسة امريكا فى الوقت الراهن؟ وهل أنتهى النظام العالمى الجديد الذى أعلنه جورج بوش،أى هل انتهت العولمة؟.
هذه الاسئلة تحتاج إلى عدة مقالات للإجابة عليها، ولكننا سنحاول بإختصار توضيح طبيعة البيئة الدولية الحالية ومستقبل النظام الدولى.
عالم معولم
تصور البعض مخطئا أن الحرب الباردة قد عادت مرة أخرى أو عادت بشكل جديد وكل هذا غير صحيح. قد يكون هناك تذمر دولى على نظام القطب الواحد رغم أن اضرار هذا النظام أقل بكثير من اضرار التنافس ثنائى القطبية،وهناك تذمر وسخط على الدولة القائدة للنظام الدولى وهذا طبيعى. وهناك ضرر عاد على بعض الدول من هذا النظام الاحادى القطبية، وبالفعل روسيا من أكثر الدول التى اضيرت من جراء هذا النظام، ولكن كل هذا لا يعنى عودة الحرب الباردة مرة أخرى أو عودة نوع جديد من الصراع الدولى المترامى الاطراف.
الحرب الباردة كانت قائمة على صراع ايدولوجى بين مذهبين وكلاهما خرج من اوروبا. المذهب الاول هو المذهب الشيوعى القائم على النظام الاشتراكى ذات التخطيط المركزى والقمع السياسى للفرد من آجل مصالح الطبقة العاملة(ديكتاتورية البرولتاريا)، والمذهب الثانى كان قائما على الديموقراطية والحريات العامة والفردية واقتصاد السوق. وهذا الصراع بين المذهبين لم يعد قائما فى الوقت الحالى، فنحن إزاء عالم معولم أرتضت به القوى العشرة الكبرى فى النظام الدولى، والتى تنتج أكثر من 90% من الإنتاج العالمى، وتسعى كلا منها إلى تعظيم الإستفادة من العولمة... العولمة أدت إلى توارى الايدولوجيات، والضعفاء فقط وغير المنتجين هم الذين يرفضون العولمة ويعادونها. روسيا ذاتها تاخذ بنظام اقتصاد السوق وبنوع من الديموقراطية المقيدة وارتفع سقف الحريات العامة بها، وتبذل كل ما فى وسعها لكى تلتحق بعضوية منظمة التجارة العالمية، الرمز الأهم للعولمة، كما ان الاستثمارات الضخمة الاوروبية والأمريكية داخل روسيا دخلت بقواعد أقتصاد السوق وفى ظل قوانيين روسية تشجع الأستثمار الاجنبى وتدعو اليه، بل وقبلت روسيا تحت ضغط بعض الشركات العملاقة التنازل فى حالات محددة عن القانون الروسى لصالح التحكيم الدولى فى قضايا البيزنس. الصين سعت لسنوات حتى نالت عضوية منظمة التجارة العالمية، والصين والهند فى مقدمة الدول التى استفادت من العولمة فى السنوات العشر الأخيرة، واخير أعلنت الصين بصراحة ووضوح إنها جزء رئيسى من هذا العالم المعولم خلال اوليمبياد بكين الذى رفع شعارquot; عالم واحد... حلم واحدquot;.
ولكن السؤال هل معنى سيادة العولمة إنتهاء الصراع؟ وكيف تفسر هذا النوع من الصراعات مثل الذى حدث فى جورجيا؟
قوى عظمى اقليمية
فى اوائل التسعينات أعلن الدكتور بطرس غالى الأمين العام السابق للامم المتحدة بان الولايات المتحدة ستبقى قوة عظمى وحيدة لمدة عقدين من الزمان على الاقل، وحتى كتابة هذه السطور لا تزال أمريكا هى القطب الوحيد فى النظام الدولى الراهن. فى السنوات العشر الاولى للعولمة تصدرت الولايات المتحدة قمة الدول المستفيدة منها نظرا لكونها كانت مستعدة بالتقدم التكنولوجى المذهل فى مجال الخدمات المتقدمة والتقنية الرقمية بما فى ذلك البرمجة الالكترونية وخدمات الانترنت، ولعوامل كثيرة تراجعت إستفادة امريكا من العولمة وتصدرت دول اخرى قمة المستفيدين مثل الصين والهند، وبقيت امريكا المتزعمة للنظام الدولى الجديد رغم إنها لا تتصدر قمة مستفيديه بل على العكس تدفع تكاليف قيادة هذا العالم المعولم.
ولكن ليس معنى وجود قطب وحيد يتصدر النظام الدولى هوإختفاء النزاعات أو الإعتداء على مصالح الاخرين.فرغم وجود نظام احادى القطبية إلا أن هناك قوى عظمى اقليمية وقوى مؤثرة فى محيطها، وهذه القوى العظمى الاقليمية او القوى المؤثرة اقليميا لها مناطق نفوذ أو مناطق هيمنة أو مناطق مصالح فى حدود دائرتها الإقليمية، وكلما تمددت هذه المناطق عالميا فهذا يعنى التمدد من قوى عظمى اقليمية الى قوى عظمى تنافس القطب الراهن.
وفى تقديرى أن القوى العظمى الاقليمية تتمثل حاليا فى الصين والهند واليابان وروسيا، علاوة على وجود قوى اقليمية مؤثرة فى محيطها مثل البرازيل فى امريكا الجنوبية وايران فى منطقة الشرق الاوسط والسعودية فى منطقة الخليج العربى وجنوب افريقيا فى جنوب القارة الافريقية.واحداث جورجيا لا تتعدى إستقواء دولة صغيرة تقع فى مجال المصالح الحيوية الروسية بالقوة العظمى الأمريكية على القوة العظمى الاقليمية،وهذا سبب كاف للاحتكاك وإعلان الرفض الروسى للتوسع فى محيط نفوذها. ومثل ذلك أن تقترب دولة من ملف تايوان فهذا يعنى دخولها فى منطقة نفوذ الصين،أو من اقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان فهذا يعنى الاحتكاك بالهند.
كل هذا مقبول ومفهوم ولا يعنى بالضرورة عودة الحرب الباردة مرة اخرى حيث أعلنت كل الاطراف عدم إستعدادها للرجوع لهذه السنيين الخطرة، حيث أعلن الاتحاد الاوروبى والناتو مساندة جورجيا بدون الدخول فى حروب لا باردة ولا ساخنة ولا حتى عقوبات على روسيا... وروسيا نفسها قبلت الوساطة الفرنسية للإنسحاب من الأراضى الجورجية بسرعة، كما أن موقف جورجيا وهجومها المباغت على اوسيتيا الجنوبية انقسمت حوله ردود الافعال الدولية بما فى ذلك الانقسام داخل الاتحاد الاوروبى ذاته.
علاوة على ذلك فأن روسيا لا تقوى ولا تملك القدرة على أى حروب باردة جديدة، فحتى فى ظل ازدهار الاقتصاد الروسى حاليا فهو لا يمثل سوى 2.4% من حجم الأقتصاد العالمى وهو أقل من اقتصاد البرازيل، وهو اقل من اقتصاد ولاية كاليفورنيا الامريكية. والأقتصاد الامريكى يزيد عن عشرة أضعاف الأقتصاد الروسى حيث يمثل وفقا لارقام 2007 ما نسبته 25.3% من الأقتصاد العالمى.
ورغم النمو الاقتصادى السريع والمذهل فى كل من الصين والهند إلا ان كليهما ما زال بعيدا عن توصيف القوى العظمى المنافسة لامريكا، فاقتصاد الصين يمثل 6% من الاقتصاد العالمى والهند 2% من الاقتصاد العالمى، وحجم اقتصادهما معا يعادل حجم الاقتصاد اليابانى، كما أن لا الصين ولا الهند ترغب فى ممارسة هذا الدور العالمى، فكلاهما ترى نفسها ما زالت دولة نامية وفى بداية الطريق وامامها طريق طويل، فمتوسط دخل الفرد فى امريكا 45800 دولار سنويا يقابله 5300 دولار للفرد فى الصين و 2700 للفرد فى الهند حسب ارقام 2007.
القوة الوحيدة التى يمكن الحديث عن منافستها بجدارة لامريكا هى الاتحاد الاوروبى (27 دولة) حيث يتفوق الاتحاد اقتصاديا على امريكا ويملك انظمة ديموقراطية مستقرة ودول مؤسسات راسخة، ولكن الاتحاد الاوروبى امامه طريق طويل لكى يترجم قوته الاقتصادية الى قوة سياسية موحدة ومستعدة للإشتباك مع القضايا الدولية بفاعلية، فما زال الناتو بقيادة أمريكا هو المظلة العسكرية الاهم لحماية اوروبا، وما زالت اوروبا لديها مشاكل فى تركيبتها السكانية والجغرافية، ولم تستطع حتى السيطرة على فناءها الخلفى فاستعانت بامريكا فى مسألة يوغسلافيا.
وعلى العموم دور شرطى العالم الذى تقوم به امريكا حاليا هو دور مكلف جدا اقتصاديا بدون عائد يذكر، وفى تصورى إنه يمثل عبء ثقيل على الاقتصاد الامريكى وعلى رفاهية المواطن الأمريكى بدون مردود يساوى هذه التكلفة الباهظة، علاوة على أن امريكا واوروبا واليابان يجمعهم تحالف استراتيجى وقيم ليبرالية راسخة ومستقرة وهم يشكلون معا 63.7% من حجم الأقتصاد العالمى.
والخلاصة: لا مجال للحديث عن حروب دولية باردة أو حروب دولية ساخنة فى الوقت الراهن إلا إذا حدثت مفأجات غير محسوبة، ولا مجال للحديث عن قوة عظمى دولية أخرى تنافس امريكا على الاقل فى السنوات العشر القادمة، وأن النظام الدولى المتعدد الاقطاب فى حالة حدوثه لن تكون صراعاته ايدولوجية بل اقتصادية حولعوائد العولمة ومناطق النفوذ الاقتصادى...وإذا كانت هناك حرب عالمية ساخنة متوقعة فستكون من الشرق الأوسط وستكون الايدولوجية الإسلامية طرفا رئيسيا فيها... فالشيوعية الدولية سقطت بدون رجعة ولا توجد ايدولوجيات آخرى يتصارع الغرب من خلالها، والايدولوجية المجمع على خطورتها عالميا حاليا هى الإسلامية الدولية.

[email protected]